كلمة عائلة الرّاحل – أ. مايا يوسف الأشقر

كلمة عائلة الرّاحل
أ. مايا يوسف الأشقر
صدقاً يا يوسف، عندما طُلب مني أن أُلقيَ كلمةً في تكريمك اليوم، سرَّني الخبر وأجفلني في آن. سرّني لأن تكريمَك واجبٌ مهما طال غيابُك، وبالمناسبة أريد أن أشكرَ من كل قلبي القيّمين على هذا الحدث. سرَّني الخبرُ بلا شك، لكنه أجفلني أيضاً لأني أنا والكلمة في طلاقٍ عسيرٍ منذ فترةٍ طويلةٍ، وسرعان ما خطرت ببالي أبياتٌ من قصيدةٍ كتبتَها أنت عندما كنت لا تزال تؤمن بالشعر الحرّ قبل أن تنتقل إلى الرواية وهو النوع الذي أبدعت فيه، أبياتٌ تقول فيها:
“أكتب…
أنا لا أريد أن أكتب
فكل شيء قيلَ من زمان…
الكتابةُ خلقٌ موجعٌ
لا تستمهل
لا تشفي
تيّارٌ يفرّ عندما يشاء
على الأوراق رقصٌ، مشيٌ، دموعٌ، أوهامٌ
لكن لها حياة، لها لسانٌ وفمٌ وعينان
تكلّمني
تَشعر بي ومعي
تُنسيني أن كل شيء قيل من زمان”…
راودتني تلك الأبيات ورحت أبحث عمّا يمكن أن أقولَ لك من على هذا المنبرِ اليوم. لأنه في الحقيقةِ وخلال سنواتِ غيابِك الطويلة قلت لك كلَ ما يجب أن يُقال حتى استنفدت الكلام، نعم كل شيء قيل من زمان يا يوسف!
لو تعرف كم تغيّرت أمورٌ بغيابك وكم صغرت الدنيا حتى لتكاد تضمحلّ. لو تعرف كم صار العالمُ عبثياً والظروف التي نعيشها خانقة تشدّ على أعناقنا طوقاً مميتاً لا يرحم!
لو عدتَ اليوم سترى أن الأرضَ القديمة أصبحت عاقراً لا تلدُ شيئاً، وأن راحيل أقلعت عن ضربِ صندوقِها بالعصا لأنها ما عادت تكترث للوطواط يأكل مشمشتَها! لو عدتَ اليوم سترى أن الأفراسَ الحمر خارت قواها لكثرةِ ما نقلت الموتى إلى مثواهمِ الأخير! وأن الجذور ما عادت تنبت لا في الأرض ولا في السماء! وأن الظلَّ صار عتمةً خانقة والصدى يردد الحزنَ تلو الحزن…
يقيني أنك تعقدُ حاجبيك قلَقاً وتتساءل لمَ كل هذا التجهّم، أعذرني يا أبي إن كانت لهجةُ كلمتي قد شغلت بالَك، كنت أودّ أن أزفَّ لك أخباراً سارّةً، أن أطمئنَك وأقولَ لك أن الدنيا بألف خير، لكنها ويا للأسف عكسَ ذلك تماماً.
لقد أمسينا بلا وطن يا يوسف، تنهَش يومياتَنا أسرابٌ من الغربان الجشعة من دون رحمةٍ.
لقد أمسينا بلا أولاد إذ بصقتهم أرضُهم الأم العاقر التي انعدمت آفاقُها وابتلعتهم أراضي الغربةِ الواعدة والخصبة.
لقد أمسينا أجساداً بلا أرواح، أطيافاً بلا أمل، بلا أحلام نسير بلا هدى.
لذلك لن أطيلَ الكلامَ لئلا أصيبَك والحضور بالاحباط. لكنني لن أختمَ كلمتي القصيرةِ على هذا النمط الحزين ففي جعبتي خبرٌ واحدٌ سارٌّ والحمدلله، وهو مشروع إعادة طباعة ثلاثيتِك الثمينة ونشرِها من جديد بعد نفادها الطويل من الأسواق والمكتبات. لقد تعهّدت دار النهار للنشر مشكورةً جزيل الشكرِ بإحياء إرثِك الأدبي الذي من خلاله نِلت عن جدارةٍ لقبَ أب الرواية الحديثة: “أربعة أفراس حمر” و”لا تنبت جذور في السماء” و”الظلّ والصدى”، روايات ثلاث سترى النور من جديد بعد التقاعس والتقصير الذَين أبدتهما دورُ نشرٍ مختلفة.
يبقى لي أن أكررَ شكري لمنظّمي هذا اللقاء التكريمي الذي أتاح لنا أن نجتمعَ بك وبذكراك!
رجوتك يا يوسف لا تمِل بوجهك عني!