الأبحاثالمجلة

كيف يُعرف اللهُ في شعر إيهاب حمادة؟ – الدكتور صالح إبراهيم

كيف يُعرف اللهُ في شعر إيهاب حمادة؟

الدكتور صالح إبراهيم

قد نصل إلى غايتنا في التقاط “معرفة الله”، عند إيهاب حمادة، من خلال القليل القليل ممّا قاله. ما كفانا عناء البحث الأفقيّ عمّا نريد، هو العمق الّذي حفره، عبر ترميزٍ  مكثّف، في “نصف” بيتٍ من الشّعر إذ قال:  “الشّمسُ أغنيةٌ في خاطر الأعمى”.

يدفعنا السّياق العامّ للبناء الصّوفيّ العرفانيّ، لدى الشّاعر، إلى تتبّع رمزيّة الشّمس كونها “المسند إليه”، في تلك الجملة بسيطة التّركيب، عبر إرثٍ بشريّ هائل، متعلّق بالرّؤية إليها، من ناحية التّقديس والتّأليه. حجّتنا، للسّير عبر هذا المسلك، هي التّماسُّ “المعرفيّ” بين الرّؤية الدّينيّة البشريّة البدائيّة، وبين الخطاب الصّوفي والعرفانيّ كونه أرقى ما تبلور في هذا المجال. فلئن كان التّصوّف “صفاءَ السّر”، يمضي خطوةً خطوةً ليصل إلى التّوحيد، ولئن كان “العرفان” الإنصرافَ إلى قدس الجبروت، وصرفَ الذّهن عمّا سوى الله، والتّوجّهَ الكاملَ لذات الحق والتّعرّضَ لنوره، فإنّ “الوثنيّة” البدائيّة “حفرٌ” في العقل والظّاهرة لفهم “الحقيقة” الإلهيّة بما كان متاحاً.

الشّمس حاضرة، في “الميثولوجيا” القديمة، ركناً أساسيّاً في تكوين الإيمان “الدّيني” لدى الحضارات القديمة. (قد لا تتسنّى لنا دراسة كلّ ما ورد حولها، في هذا المجال، لذلك سنكتفي بما قد يفي بالغرض).

في الأسطورة السّومريّة، على سبيل المثال، “أوتو” هو “إله” الشّمس والعدل وتطبيق القانون، وربّ الحقيقة في آنٍ معاً.

أمّا “أماتيراسو”، “إلهة” الشّمس عند اليابانيّين، فحبست نفسها في كهفٍ، فعمّ العالمَ ظلامٌ دامس، وانتشرت الكوارث، إلى أن اجتمعت “الآلهة” جميعاً، وقرّرت أداء الطّقوس الكفيلة بعودتها.

ولدى المصريّين القدماء، كان “رع”  “إله” الشّمس الرّئيسيّ يكافاح، كلّ ليلة، ضدّ قوى الفوضى والشّر.

المصريّون القدماء، أنفسهم، أيضاً، في مرحلة من مراحل تطوّر عقلهم “الميثولوجيّ”، قد رمزوا “للإله” “آتون” بقرص الشّمس، ولم يجعلوا له زوجاً ولا ولداً، ولم ينحتوا له صنماً. لقد كان عظيماً إلى أن انتهت عبادته بعد وفاة “إخناتون” الدّاعي إليها.

أمّا “أبولو” الشّهير، عند اليونانيّين، فهو “إله” الشّمس والموسيقى والشّفاء، ويأمر بالتّنقية والتّوبة.

نلاحظ، من خلال ما تقدّم، أنّ “آلهة” الشّمس، في تلك الحضارات، غير محصورةٍ بالشّمس، بل كانت على مستوىً رفيعٍ من التّأثير في حياة البشر من ناحية تنظيمها وفاقاً لمعايير العدل، والكشف، وتنقية النّفس، وإسعادها في آنٍ معاً.

يندرج الأمر ضمن محاولاتهم إدراك “الألوهيّة”، كونهم يُعملون العقل والحدس في “أسرار الوجود”، دأبهم أن يصلوا إلى معرفة يقينيّة. لذلك، يمكن لنا أن نقول إنّ الجهود “الصوّفيّة” قد تتّسق، في جانبٍ بسيطٍ منها، مع ذاك الحدس الإنسانيّ الّذي زرعه الله في الوجدان البشريّ مذ وُجد البشر.

يدفعنا هذا “الظّن” إلى محاولات تلمّس الرّمز المكثّف، في قول إيهاب حمادة، غير بعيدين عن مسار تلمّس “الألوهيّة” الحاضرة في شعره، كونه يرتكز على إرثٍ “صوفيٍّ” “عرفانيٍّ” عريض لا يمكن فصله عن تاريخ الجهد العقلي الرّوحاني البشريّ، عبر تاريخ طويل، “لمعرفة” الله.

قد لا تكون الأسطورة حاضرةً في هذا القول، كما هو الحال في الكثير من الشّعر الحداثيّ، لكنّ بعض إسقاطات التّرميز والحدس، المتّصلة بها، “حاضرةٌ” فيه، كون ذاك الإرث التّرميزيّ الحدسيّ ماثلاً في “خاطر” الشّاعر.

أمّا إذا وسّعنا دائرة الرّوية، للمقارنة، فسنرى “قدسيّة” الشّمس، في بعض الدّيانات الموحّدة غير السّماويّة، غيرَ بعيدةٍ من هذا المسار التّرميزيّ.

هي، على سبيل المثال، قبلة “الأيزيديّين” و”الكاكائيّين”، يولّون وجوههم شطرها إذ يصلّون، ويرون أنّ نورها هو نور الله.

أمّا في الكتاب المقدّس، فقد تكون أكثر قدسيّةً وأعلى “مرتبةً”؛ “الربّ الإله شمسٌ”(مز 11:84)، و”الشّمسُ شريعة الله” (مز 7:19)، وهي “حضور الله وشخصه”(مز 11:48)

أمّا في القرآن الكريم فقد ذُكرت بمعناها التّعييني وقُدّمت خاضعةً للمشيئة الإلهيّة المطلقة: “ألم تر أن ّ الله يسجد له من في السّماوات ومن في الأرض والشّمس والقمر…” (الحجّ: 18).

وهي، تالياً لخدمة البشر بأمر الله: “هو الذي جعل الشمس ضياءً”.( يونس 5).

وهي، أخيراً، لم تخرج عن النّاموس العام للوجود كونها إلى زوالٍ كباقي المخلوقات: “إذا الشّمس كُوِّرت. وإذا النّجوم انكدرت”. (التّكوير : 1و2)

هي، في كلّ حالاتها، آيةٌ من آيات الله الكبرى، قد نستدلّ على بعض عظمته من خلالها.

أمّا في قول إيهاب حمادة “الشّمس أغنيةٌ”، أنّى تكن الشّمس، فتبقى لصيقةً بالفرح كون “الأغنية” لا تُقفل علينا معناها، ولا تدفعنا إلى جهدٍ عقليّ للوقوف عليه. على الرّغم من ذلك، لا يمكننا، حتّى الآن، أن نرى قدسيّةً غير اعتياديّةٍ للشّمس، بل يُلزمنا “التّركيب” بالوقوف عند معنى الفرح فحسب.

عبر فكّ الرّمز أوّليّاً، اتّساقاً مع معنى الفرح بالشّمس، قد نقف على معنى الإنتفاع بها كونها سبّبت الفرح، وهذا غير بعيد من حقيقة “تسخيرها” للنّاس كما ورد في النّص القرآني: “وسخّر لكم الشّمس…”(إبراهيم: 33).

أمّا في التّرميز الصّوفي غير البعيد من جهد إيهاب حمادة، في شعره، فالشّمس هي “نورُ بصر القلب”. (الشّيخ سهل بن عبدالله التّستري)، و”إشارةٌ الى العقل المجرّد”.(الإمام أبو حامد الغزالي)، و”كنايةٌ عن الرّفعة ومقام القطبيّة وارتفاع الشّكوك”. (ابن عربي)، و”آيةٌ للحقيقة الإلهيّة الكماليّة الأكمليّة وإشارةٌ إليها”.(الشّيخ محمّد بافتادة البروسوي)، وهي “كنايةٌ عن مرتبة الأحاديّة”.(الشّيخ عبد القاهر الجزائري)، و”نقطةُ الأسرار ودائرةُ الأنوار”.(الشّيخ عبد الكريم الجبلي).

لا نستطيع الإحاطة بكلّ ما قاله المتصوّفون والعرفانيّون، عبر تاريخهم، عن الشّمس، ترميزاً وتوظيفاً دلاليّاً، ولا ينبغي لنا، لكنّنا اخترنا ما يمكن أن ينسجم مع قول إيهاب حمادة علّنا نقف على ما رمى إليه، مع علمنا أنّ التّرميز الماثل في قوله يختلف عمّا ألفناه من ناحية “كثافة” القول، وبعد الغاية، وعمق الإشارة، على الرّغم من بساطةٍ لافتة في التّركيب.

إنّ “كونيّة الخطاب” الصوفي الّتي تدفعنا الى قراءته(الخطاب الصّوفيّ) عبر النّظر في مصادره الجوهريّة، وواقعه التّاريخيّ، كونه جهداً إنسانياً دائباً إلى الله، غير مخصوص بدائرة حضاريّة واحدة، هي نفسها تدفعنا إلى وضع قول إيهاب حمادة ضمن تلك الدّائرة “الكونيّة”.

في قوله: “الشّمس أغنيةٌ في خاطر الأعمى”،  الشّمس، عدا عن كونها الرّكن الأساسيّ في الجملة، قد احتلّت “الخاطر” وهذا أمرٌ قد يفضي بنا إلى ما أراده، لكنّنا سنخطئ، حتماً، إذا أهملنا “الإضافة”. لم يقل “الخاطر” بالإطلاق، بل حدّد “خاطر الأعمى”. وفي هذا التّحديد تكمن أهميّة التّرميز الّذي لا يمكننا الوصول إلى “سرّه” إلّا إذا وقفنا على المراد “بالأعمى” وليس “بالخاطر” فحسب.

الأعمى بالمعنى التّعيينيّ هو من فقد بصره كلّيّاً، وهذا لا يعنينا في سياق التّرميز المكثّف في الجملة موضوع القول.

أمّا إذا قصدنا بالأعمى من هو “أعمى القلب”، فقد نقترب قليلاً، ربّما، من معناها في قول الشّاعر.

في القرآن الكريم، ذكرت لفظة أعمى ومشتقاتها مراراً وقد قُصد بها أعمى القلب، غالباً، فقُصد بها على وجه التّحديد، من عمي عن الهداية ورؤية الحقّ:

“وما يستوي الأعمى والبصير”. (فاطر: 19). الأعمى في هذه الآية هو الّذي لم يهتدِ إلى الإيمان ومعرفة الحقّ. هو من لم ير الله، في قلبه، رفضاً أو عجزاً. هو الّذي لم يصدّق “البلاغ”.

يتأكّد هذا المعنى في آيةٍ أخرى: “قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكّرون”( الانعام 50). ما زاد في هذه الآية، عمّا في الأولى، هو الدّعوة إلى التّفكّر للوصول إلى الهداية. إنّه فتحٌ لطريقٍ أخرى تصل “بنا” إلى معرفة الحقّ عبر “التّفكّر”.

تدفعنا هذه “الحقيقة” إلى قولٍ يؤكّدُها: “للّه على النّاس حجّتان حجّة ظاهرة(الرّسل والأنبياء) وحجّة باطنة( العقول)”. (الإمام الكاظم ع).

المقصود بالحجّة الأولى أنّ الأنبياء والرّسل قد بلّغوا البشريّة بالحقّ فكان عليها أن تهتدي. أمّا الحجّة الثّانية، العقول، فهي من عند الله قادرةٌ على “رؤيته”، طريقُها إلى ذلك هو التّفكّر.

عبر التّفكّر “يهدي اللهُ لنوره من يشاء”. (النّور:35).

الأعمى الّذي لم يرَ الله من خلال “التّبليغ”، سيراه، حتماً، إذا تفكّر وتأمّل. “يحظى”، حينها، بالنّور الإلهي الموجود داخله.

إيهاب حمادة، في قوله “الشّمس أغنيةُ في خاطر الأعمى”، يكثّف كلّ ما تقدّم عبر عمق النّظر، وطاقة الحدس ليغرس في الطّويّة نورَ الفهم العميق للحقّ المطلق.

إنّ الأعمى الّذي لم ير، بعدُ، الحقَّ، ولم يعرفْه، سيعرفُه، حقّ المعرفة، كونه فيه نوراً- شمساً.

ليس في يدك أن تجعل نور الله في قلبك أو لا تجعله. نور الله في القلب بفعل المشيئة الإلهية… في يدك أن تتلمّسه، أن تراه فترى به.

الشّمس – النّور – الضّوء – الهداية – المعرفة اليقينيّة بالحقّ المطلق هي أغنيةٌ في خاطر الّذي لم يرها بعد، الّذي لم يُبلّغ، أو لم يفهم، بعدُ، ما بلّغ به.

هي في خاطره، والخاطرُ  ما يخطر في القلب من أمرٍ أو رأي، والخاطرُ  هو القلبُ أو النّفس مجازاً.

اللّه في خاطرنا، في النّفس والقلب، حتّى لو لم “نبلّغ” عنه، أو لم نفهم “البلاغ” حتّى الآن.

“الشّمس أغنية”.

هو أغنيةٌ. هو الفرح المطلق. لا فرح في الحياة ما لم نر الله. تفقد الحياةُ معناها ومغزاها من دون معرفته، لذلك هو في خاطرنا بفعل مشيئته، كي نحقّق غايةَ وجودنا عبر معرفته. هو نورٌ داخلنا سنراه حتّى لو أغمضنا العيون.

هو النّور الأكيد، والفرح الأكيد.

لا ضوء إلّا به، ولا فرح إلّا بمعرفته.

هو نور الحياة. نعرفه بسرّه الكامن فينا.

أغمض عينيك، تره، فتحقّقِ الغايةَ من وجودك، فتفرحْ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى