الأبحاثالمجلة

اللغة العربيّة والتكنولوجيا الحديثة في حالة اختلاف أم ائتلاف؟ – د. ليلى مرجي

اللغة العربيّة والتكنولوجيا الحديثة في حالة اختلاف أم ائتلاف؟

د. ليلى مرجي

تحرّض المظاهر المتعدّدة للثورة التكنولوجية، لا سيّما عالم الصوت والصورة، أو ما يُسمى بـ “اليوتيوب” و”الفايس بوك” و”الانستغرام” و”تويتر” و”واتس آب”… على البحث عن مكانة اللغة العربيّة بوصفها وسيلة للتداول في مختلف مناحي الحياة، التعلميّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة والسياسيّة… في البلاد العربيّة كلِّها.

تعدّ اللغة وعاء الفكر، فهي منبع الأفكار، تحملها وتعبّر عنها، تنقلها من كمونها السكوني إلى عالم الوجود الفعلي، إلى الوظيفة وحركيّة الفعل. وفي هذا العصر تقولّب العالم بكلّ اتجاهاته في قالب التكنولوجيا وما أبدعته، وما تبدعه يوميّاً من أساليب وأشكال جديدة للتواصل السريع بين البشر على اختلاف جنسياتهم وأديانهم وألوانهم… فطاقات البشر تتسابق وتتنافس فيما بينها من أجل كشف اللثام عمّا زال مبهماً، وتصل إلى المزيد والمزيد من الاختراعات المذهلة، فتجذب إليها الصغار والكبار، فغدت العالم الجاذب الذي لا يقاوم، والذي يتفاوت في تقديم المحتوى عبر شبكات الإنترنت. وهنا نتساءل أين اللغة العربيّة من كلّ ذلك؟ أين هي في زحمة المحتويات والمعارف التي تقّدم عبر منصات عالم التواصل الاجتماعي؟ هل توارت؟ أم لا يزال لها وجودها الفاعل والقيّم؟

ترتبط اللغة العربيّة بالحياة العقليّة وبتراث الأمّة وثقافتها، وهي ليست مجرد أصوات أو أداة تواصل بين الأفراد والجماعات، بل تتلازم وحركيّة المجتمعات، وتُظهرالأطر العامّة للمحتويات العلميّة والمعرفيّة والأدبيّة والأخلاقيّة… ذلك أنّها قادرة على احتضان العلوم والمعارف الجديدة، وعلى التعبير عنها ومواكبتها؛ لأنّها لغة ذات قواعد وقوانين، وهي كائن حي ينمو ويتطوّر مع الزمن ولا يعرف الجمود. وفي عصر التحولات الرقمية المتسارعة، تقف اللغة العربية أمام تحديات وفرص متعدّدة، فبينما تسعى المجتمعات إلى الحفاظ على تراثها الثقافي واللغوي، تتبنى في الوقت نفسه الأدوات الإلكترونيّة الحديثة التي تغيّر طريقة تواصل البشر وتفاعلهم. فهل تآلفت اللغة العربيّة مع الحداثة الإلكترونيّة، أم هما في صدام لا استراحة فيه لمحارب؟!

فرضت وسائل التواصل الاجتماعيّة قواعد اشتباكها مع اللغة، فهي من جانب طرحت الإرث الثقافي والحضاري لكل الثقافات والايديولوجيات بحيث أصبح إرثاً كونيّاً متاحاً لكلّ بني البشر على اختلاف مشاربهم الفكريّة والحضاريّة والعرقيّة، ومن جانب آخر قلبت المقاييس رأساً على عقب، فتفشّت عوارض التذبذب بين الأرث الثابت والثقافات الطارئة المستحدثة، فأدّت إلى  ظهور مصطلحات جديدة وتغيرات في أنماط استخدام اللغة العربيّة، تغيّرات سلبيّة في معظمها، إذ اعتمدت اللغة العاميّة في معظم الأحيان، أو الحرف الأجنبي للتحدّث بالعربيّة، أو استخدام مصطلحات أجنبيّة بحروف عربيّة، وتمّ إقحام أحرف وأرقام أجنبيّة في المحادثات، وقد شاعت الأخطاء الإملائيّة والنحويّة في ظلّ اسبعاد الكتاب عن حلبة الصراع الثقافي مع الثورة الالكترونيّة بما يمثل هذا الكتاب فهو حجر أساس في المدماك الثقافي.

وإذا بحثنا في مضمون المحتويات التي تقدّم عبر منصات التواصل الاجتماعي لكانت الصاعقة الكبرى! فكثير ما تحفل هذه الوسائل بالقنوات التي تسوّق للمحتوى الخاوي من أي قيمة فكريّة أو روحيّة من شأنها أن ترقى بذوق الفرد والجماعة الى المستوى اللائق بإنسانيتها، فضلاً عن نشر عدوى الإحباط والكآبة بين شرائح المجتمع كافّة، لا سيّما بين الشباب والمراهقين، أو الترويج للشذوذ وثقافة الميوعة، مجهزةً على القيم والمبادئ بأساليب شيّقة، جاذبة، سعياً وراء “ترندات” فارغة، خاطفةً عقول متابعيها وأبصارهم، جاعلة من كل سخيف محطّ اهتمام الجميع، ومرتكز حواراتهم، وباعث تفاعلهم فيما بينهم، ومن لم يتثقّف بثقافتهم الخاوية يصبح كمن يغرد خارج سرب الحضارة  والحداثة والتطوّر. أإلى هذا الحدّ انحدرت محتوياتنا الثقافية؟! أإلى هذا الحدّ باتت لغتنا مقعدة مولودها هجين، في مقابل  لغة الدول المتقدّمة حضاريّاً والمواكبة لعجلة لتطور الثقافي التي تتمتع بالخصوبة والثراء؟!

لقد فرضت تعدّدية الوسائل الحديثة واقعاً اجتماعيّاً جديداً، أبعدت فيه المجتمعات عن أصالتها وعن أساليب التواصل اللغوي السليم، فاتسعت الهوّة بين المنطوق اللغوي الطارئ، والمنطوق اللغوي الفطري والأصيل. وقد يقول قائل: “هذا ليس بطارئ على اللغة العربية التي تعرضت عبر التاريخ إلى موجات من اللحن كادت تطيح ببنائها اللغويّ، ووصل الأمر إلى تسرّب الأخطاء إلى تلاوة القرآن الكريم”. وبناءً على ما تقدّم تبدو الظاهرة الحديثة والتي تتمثل بعوالم تكنولوجية متعدّدة، وغير منضبطة ومفتوحة ومتغللة في كل البيوتات هي أشدّ خطورة على اللغة من كلّ ما تعرضت له في تاريخها؛ ذلك لقدرة هذه الوسائل على اقتحام الأمكنة، واختراق الخصوصيّات، والتغلّغل بين كلّ الفئات العمريّة. إنّها كهواء ملوّث والجميع مجبر على تنشّقه، بل إنّها وباء أزرق أصاب الجميع، ولم ينجُ منه إلّا من رحم ربي، ومن استعصم بالقيم والمبادئ والقواعد اللغويّة. فهل من سبيل إلى تنقية هواء لغتنا عبر أثير وسائل التواصل الاجتماعيّ المتعدّدة الألوان والأشكال؟ وهل فعلاً الواقع أحادي الصورة غارق بوحول مستنقعات وسائل التواصل الاجتماعي؟ أم هو مرهون بإرادة الأمّة ومدى حرصها على هويّتها الثقافيّة واللغويّة التي يكسبها القرآن الكريم بعداً مقدساً؟

تؤكّد عملية رصد لواقع وسائل التواصل أنّ الإنسان المعاصر ابتعد عن فطرته اللغوية، فتشوّهت لديه عمليتا السماع والنطق، فبات يستسيغ الهجين، ويستمتع بالمستغرب من الكلام وينطق به أيضاً، لكثرة ما تعرّض لأشعة هذه الوسائل المسمومة التي تنتهك حرمة القوانين اللغويّة والأخلاقيّة، تحت شعار الحريّات، حريّة التعبير، حريّة الفكر… لكنّ المتأمّل للواقع والمتفحّص لتلك البرامج يلمح صوراً مغايرة، تحمل بريق أمل، وتزرع بذرة مؤصلة، لا بدّ أن تنمو في القادم من الأيام. فعلى الرغم من الصورة القاتمة، يجد المتأمّل في هذا العالم جوانب مضيئة، تؤسس لمستقبل مشرق قادر على الإفادة من معطيات التكنولوجيا وتوظيفها لخدمة اللغة والتراث. فهناك برامج، وإن بدت دخيلة، على عالم السخافة، إلّا أنّها أوجدت لنفسها مكاناً، وجذبت إليها الكثير من المشاهدين والمتابعين  الذين يبحثون عن الأصالة، ويملكون ذوقاً سليماً لم يتشوّه بعد، فبرامج الـ “يوتيوب”، مثلاً، أصبحت جزءاً لا يتجزأ من ثقافة المشاهد في العالم العربيّ، وهي تتنوع في محتوياتها، فهناك محتويات قيّمة صحّحت مسارات، ورفعت منسوب الوعي، وكشفت حقائق، وبلورت هويّات، ونسفت جدران عقائديّة وفلسفيّة عبر برامج المناظرات والحوارات المرتبطة بالأديان والعقائد. ومن بين هذه البرامج، نجد ما يثري المحتوى العربي، ويسهم في تعزيز اللغة والثقافة، كبرنامج “فتاة النرد” الذي  يتميّز بتقديمه محتوى ثقافي غني ومتنوع. لقد انبرى وحده للقيام بأدوار الأسواق الأدبية التي كانت سائدة في العصور السالفة، كسوق عكاظ أو المربد، لقد أفسح المجال أمام الشعراء لتقديم إبداعاتهم، وللتفاعل مع المشاهد وللإفادة أيضاً، من النقد لتطوير المهارات وتصويب الأخطاء ومعالجة الثغرات… لقد تناول هذا البرنامج موضوعات أدبيّة وفكريّة وسياسيّة واجتماعيّة معاصرة تهمّ المشاهد وتلفته لتصحيح مساره،  فكان له مساهمة بارزة في تنمية قدرات التفكير النقدي.

قدّم البرنامج اللغة العربية بأسلوب سلس وجذاب، الأمر الذي شجّع الشباب على الاهتمام بالقراءة والكتابة، وعزّز من مكانة اللغة في عصر تتسارع فيه التحوّلات التقنيّة والرقميّة، مستفيداً من التطور في جذب المشاهد عبر اضافة موسيقى وتقنيات بصرية… فكان له الكثير من الآثار الإيجابية والتي أدّت إلى انتشار اللغة الفصيحة ومفرداتها المتنوعة بين المستخدمين وبخاصة الشباب، وكذلك نشر التراث اللغوي والأدبي.

ولا تُخفى أهمية المنصات والصفحات والحسابات المتخصّصة في التثقيف اللغوي، والمنتديات التي تهتمّ بالمساجلات والإبداعات الأدبيّة، فهي تسهم في الحفاظ على سلامة اللغة ونشر تراثها.

لقد وفّرت الحداثة الإلكترونية فرصاً فريدة لتطوير اللغة العربية وتوسيع نطاق استخدامها، فأفسحت المجال أمام المغمورين، فصار لهم قنوات لا تكّلف الجهد أو المال، فبات بإمكانهم نشر قصائدهم ومقالاتهم وابداعاتهم عبر أثيرها بسهولة ويسر. أتاحت تطبيقات تكنولوجيا المعلومات أساليب جديدة من خلال الصوت والصورة والموسيقى والحركة التي يمكن استثمارها لتنمية المهارات اللغوية ولجذب المتابعبن وتشويقهم وتنمية حسّهم النقدي، كما أتاحت من خلال المكتبات الرقمية فرص التعلم والتثقف والمطالعة للجميع، كما وفّرت إمكانية تخزين المحتوى وتحريره بطريقة منظّمة، وسمحت بمشاركته للقراء، ومشاركتهم في النقد والتحليل والتفكير الابداعي والتفاعل مع الناشر على صفحته مباشرة.

نقطة على سطر مستقبل اللغة، التكنولوجيا صفحة مضيئة في كتاب لغتنا، كما في فضاء العلوم ، لكنّ المتابع هو من أساء استخدامها، هو من فضّل الميل إلى التافه من الأمور، فأدخل عقله في حالة سبات آن الأوان لانهائها ولتعزيز اللغة العربية والحفاظ على هويتها الثقافية الغنية والمتمايزة، آن الأوان للإفادة من تجارب الناجحين في هذا المجال، ولفتح الأبواب كلّها أمام موجات التقدّم والحداثة، ومن تفعيل العقول لتنقية موجاتها من السموم العالقة على أطرافها.

إذاً، اللغة العربية والحداثة الإلكترونية في حالة ائتلاف، والاختلاف يظهر في التحدّيات التي تواجهها اللغة أمام غزو المصطلحات الأجنبية والتقنيات الحديثة، وغياب وعي المستخدم لهذه الوسائل أو المتابع لها الذي لا يكلّف نفسه عناء البحث عن البرامج المفيدة . ويظهر الائتلاف جليّاً في الفرص التي تقدّمها الحداثة الإلكترونية لتعزيز اللغة وتوسيع نطاق استخدامها و يعتمد الأمر في النهاية على كيفية تعامل الانسان العربي مع هذه التحديات واغتنامه للفرص لتحقيق مستقبل يحافظ على الهوية اللغوية والثقافية.

إنّ المنصات مفتوحة للجميع، ما يعني أن مسؤولية المحتوى تقع جزئياً على صانعيه، وبشكل كامل على المتابعين، ومن الضروري أن يعي المشاهد دوره النقدي والتوعوي، فهو القادر على وأد التافه منها والسخيف عبر إهماله وعدم مشاهدته، وعبر اختياره البرامج التي تساهم في تطوير ذاته وتنمية مهاراته اللغوية والفكرية، ودعم كلّ ما يساهم  في إثراء المحتوى العربي القيّم والهادف.

ولتوسيع هامش الائتلاف بين اللغة والتكنولوجيا، يمكن دعم المبرمجين لإنشاء مكتبات وأطر عمل برمجية باللغة العربية، أو تطوير منصات برمجة موجهة للأطفال لتعلم البرمجة بلغتهم الأم، ويمكن استغلال تقنيّات الذكاء الاصطناعي لتطوير أدوات ترجمة آليّة دقيقة ومتقدّمة للغة العربيّة. ويمكن استخدام المنصات التعليمية على الإنترنت لتدريب المعلّمين على أفضل طرق تعليم اللغة العربية باستخدام الوسائل الحديثة، على أن تشمل هذه المنصّات دورات تعليميّة، وندوات عبر الإنترنت، ومجتمعات تعلّم تعاونيّة حيث يتبادل المعلمون الخبرات وأفضل الممارسات. ويمكن إنشاء منصات نشر إلكترونية خاصة بالأدب العربي، أو تنظيم مسابقات للكتابة باللغة العربية تشجع الشباب على التعبير بلغتهم الأم. كما يمكن التعاون مع شركات التكنولوجيا الكبرى لدعم اللغة العربية على منصاتها، سواء أكان ذلك في تطوير لوحات مفاتيح ذكية، أو تحسين دعم اللغة العربية في أنظمة التشغيل والتطبيقات وتشجيع الابتكار في استخدام اللغة من خلال استغلال وسائل التواصل الاجتماعي في نشر اللغة العربية بطرق جديدة ومبتكرة. ويمكن استغلال التقنيات الحديثة لتوثيق التراث اللغوي والأدبي العربي، من خلال إنشاء مكتبات رقمية مفتوحة للجمهور تضم الكتب والمخطوطات والوثائق التاريخية التي تسهم في الحفاظ على الهوية الثقافية واللغوية في خضّم مواجهة التسونامي الالكتروني لتحويل مساره خدمة للغة العربيّة.

يمكن القول، إن تفعيل الوسائل الحديثة في خدمة اللغة العربية يتطلب نهجاً شاملاً يشمل التعليم والتكنولوجيا والإعلام، ومن خلال الاستثمار في هذه المجالات، يمكن تعزيز مكانة اللغة العربية وجعلها أكثر توافقاً مع متطلبات العصر الحديث، مع الحفاظ على جوهرها الثقافي والأدبي، فاللغة العربية والتكنولوجيا الحديثة لا يمكن أن يختلفا أو يتصارعا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى