مقالات

قراءة في رواية “سلطان وبغايا” لهدى عيد في فقد إنسانيَّة الإنسان ومسخه

قراءة في رواية “سلطان وبغايا” لهدى عيد

في فقد إنسانيَّة الإنسان ومسخه

أ. د. عبد المجيد زراقط

عتبات الرواية/ الفضاء النصِّي ودلالته:

تشكِّل عتبات الرواية، وتشمل، في هذه الرواية، العنوان والتوضيح والتصدير والتعقيب، فضاءَ الرواية النَّصِّي الناطق بدلالة/ رؤية إلى العالم وقضاياه؛ الأمر الذي يقتضي أن نبدأ قراءتنا لهذه الرواية بمحاولة تشكيل هذا الفضاء النَّصِّي وتبيُّن دلالته/ رؤيته.

في العنوان:

يثير العنوان: “سلطان وبغايا” فضول القارئ ورغبته في معرفة هذا المستبدّ وبغاياه، ويخطر له – أي للقارئ – أنَّه قد يكون “قوَّاداً” مستبدَّاً ببغايا، كما يرغب في قراءة رواية عالمٍ غريبٍ مختلفٍ مثيرٍ للاهتمام.

في التوضيح:

ينصُّ التوضيح على أنّ “الأسماء والعائلات والأسئلة الكثيرة الواردة، في الرواية، هي وليدة الخيال والحبكة الرّوائية، ولا تمتُّ بصلةٍ إلى أرض الواقع”. وهذا يثير مسألة واقعية أحداث هذه الرواية وشخصياتها، وجدليَّة العلاقة بين الواقع المعيش والمتخيَّل. فإن تكن هذه الرواية وليدة الخيال والحبكة الروائية، فهذا يعني أنَّ بناءها الروائي، بمختلف مكوِّناته، متخيَّل، لكنَّه يثير سؤالاً هو: أليست هذه الرواية تصدر عن مرجع واقعي لتمثِّله وتعادله وتكشفه، وترى إليه؟ يبدو لي أنَّ الإجابة عن هذا السؤال هي نعم، والدليل هو التوضيح نفسه الذي ينفي ما قد يراه القراء من أنَّ سلطان هو فلان، وأنَّ بغايا هي شخصيات معروفة، وذلك لأنَّ صدقيَّة الرواية، في تمثيلها للواقع المعيش، دالَّة على ذلك.

في التصدير:

التصدير مقتبس من قول لابن خلدون هو: “إذا فسد الإنسان، في قدرته، ثم في أخلاقه ودينه، فسدت إنسانيته، وصار مسخاً في الحقيقة”. يثير هذا التصدير سؤالاً هو: هل هذه الرؤية هي الرؤية التي ينطق بها البناء الروائي المتخيَّل؟ ثم هل تتمثَّل قضية هذه الرواية الأساس في الفساد الذي يمسخ صاحبه، فيفقده إنسانيته ويحوِّله من إنسان إلى مسخ؟

وهل “سلطان وبغايا” هم الذين فسدوا ومُسخوا، وفقدوا إنسانيَّتهم؟

ولمَّا كان سلطان نكرةً وبغايا كذلك، وهذا يفيد التعميم، وليس التعريف والتعيين، فهل هذا يعني أن هذا القول/ الحكم يصدق على كلِّ سلطانٍ وكلِّ بغايا؟

في التعقيب:

يرد التعقيب الآتي بعد أن تنتهي الرواية، وهو قول لدانتي أليغري:

“أحلك الأماكن، في الجحيم، هي لأولئك الذين يحافظون على حيادهم في الأزمات الأخلاقية”، أي الذين يقفون على التلِّ، كما يرد ذلك في تراثنا العربي، وإذ يأتي هذا الحكم بعد نهاية الرواية، ندرك أنَّه يأتي بعد أن تُقَصَّ رواية الفساد/ المسخ ويُراد منه، بعد أن كُشف الواقع للقارئ، أن يتخذ موقفاً منه، وألَّا يحافظ على حياده، لئلَّا يقع في أحلك الأماكن في الجحيم.

أدبية/ شعرية الرّواية:

في هذا الفضاء النصّي نجري قراءة في هذه الرواية.

في البدء، ينبغي التاكيد أنَّ الرواية، أي رواية، ليست بحثاً في قضية، وإنَّما هي تمثُّل روائي، أو تمثُّل الواقع المعيش وتمثيله نصَّاً روائيَّاً تهيمن فيه الوظيفة الجماليَّة، ويتَّصف بالأدبيَّة/ الشعريَّة التي تجعل منه أدباً، وينطق برؤية إلى العالم وقضاياه، ترشح منه كما يرشح العطر من الزهرة. والسؤال الذي تحاول هذه القراءة الإجابة عنه هو: كيف تمثَّلت هذه الأدبيَّة/ الشعريَّة الروائيَّة، بوصفها دالَّاً ينطق بمدلول؟

وحدات الفقد وتبيُّن سرّ المدلول:

تبدأ الرواية بوحدة سرديَّة هي وحدة الفقد التي تبدأ بها أيُّ رواية مشوِّقة، لمعرفة كيف تمَّ الفقد؟ ولماذا؟ وهل يُعوَّض؟ وكيف يتمُّ السعي لتعويضه؟ ومن يقوم بذلك؟ ومن يساعده؟ ومن يعارضه؟ وهل يتحقَّق الإنجاز؟

تتمثل وحدة الفقد هذه بإعلان زهيَّة عاصم زعتر، على “اليوتيوب” عن اختفاء عمّها الملياردير اللبناني الشهير سلطان بك زعتر، منذ خمسة أشهر، وتقديم مكافأة مالية ضخمة لكلِّ من يدلي بأخبار وافية عنه. يحقِّق الإعلان أعلى نسبة مشاهدة، ثمّ يعمَّم على صفحات الصحف.

تفيد هذه الوحدة، فضلاً عن أدائها وظيفة الفقد، أنَّ “سلطان” هو اسم شخصيَّة من شخصيَّات الرواية، وأنَّه “ملياردير” شهير، غير أن شهرته زعتر، تشير إلى تحدُّره من أصولٍ شعبيَّةٍ.

وقبل نهاية الرواية، نجد وحدة فقد، تتمثَّل بنشر سائحٍ ألمانيٍّ “فيديو عنوانه: رجل النحل”، يفيد بمهاجمة نحلٍ مفترسٍ عجوزاً، ويلسعه فيموت، ويُعرف أنَّ هذا العجوز هو سلطان المختفي منذ نحو العام.

وتمثَّلت نهاية الرّواية في وحدةٍ سرديَّةٍ، تؤدي وظيفة الفقد كذلك، وهذه المرَّة يُفقد عالم الفساد/ المسخ، إذ تُغلق السيدة التي آوت “سلطان” بوَّابة عالمها الجميل الطاهر الساحر في وجه زهيَّة التي أرادت استثمار هذا العالم وتحويله، كأنَّها تريد إعادة سيرة عمِّها، وهذا هو موقف الفاعليَّة الذي تنطق الرواية به، وتدعو لاتخاذه.

المشترك، بين الوحدتين الأولى والثانية، هو الفقد، وإعلانه بوساطة اليوتيوب وتحقيقه أعلى نسبة مشاهدة، والمختلف بينهما هو أنَّ الفقد في الأولى هو الخروج من عالم الفساد بعد حدوث العجز، وأنَّ الفقد في الثانية هو الخروج من الدنيا/ الموت، أو القتل، والنحل، بوصفه رمزاً لفاعلية الجدِّ والاجتهاد والعطاء الجميل/ العسل، هو الذي يلسع ويقتل، ما يعني أنَّ الطبيعة الجميلة الساحرة هي الأصل، ومن مكوِّناتها الإنسان النقي ممثَّلاً بالسيدة التي آوت “سلطان. وهي- أي هذه الطبيعة-  تحفظ إنسانيَّة الإنسان وتحول دون مسخه، وأن لا مكان للفساد والفاسدين فيها، ولهذا تغلق بوابتها في وجه زهيَّة التي ورثت عمَّها مستخدمةً وسائله، بعدما تنافست هي وزوجته الأخيرة، الشابَّة الجميلة على نيل الإرث، وكلٌّ منهما تنتمي إلى عالمه.

في مسار السعي إلى تعويض الفقد/ الاختفاء

تلي وحدة الفقد/ الاختفاء الأولى وحدة الخروج لتعويض الفقد، وتتمثَّل هذه الوحدة في اتصالات وتحقيقات تجريها زهيَّة مع شخصيَّات تُرشَد إليها، أو تجد أرقام هواتفها، في سجلِّ هاتف عمِّها الذي لم تُبْق زوجته الأخيرة سواه من مقتنياته التي يمكن أن تدلَّ عليه.

تبدو زهيَّة كأنَّها محقِّق يسعى في سبيل تحصيل معرفة بالمختفي وبعلاقاته وأعماله وأسباب اختفائه، لعلها تصل إلى معرفة مكان وجوده، فيرتدّ مسار القص إلى الماضي البعيد والأبعد، والقريب والأقرب، فضلاً عن الحاضر، فتشكّل حبكة تقرب من أن تكون بوليسية، تؤدي فيها زهيَّة دور المحقّق، وتؤدّي فيها الشخصيَّات التي تُرشد إليها دور الشهود/ الرواة، ذلك أنَّهم هم الذي يروون، فيوجِّهون خطابهم لها بصيغة المخاطبة، فيردُّ كلٌّ منهم على أسئلتها التي توجِّهها له، فيصوغ هذه الأسئلة، ويجيب عنها، ومن نماذج ذلك، على سبيل المثال: “نعم، أنا هي…، أنت من عائلة زعتر حقَّاً…، زوجته الشابة قالت لك أنَّه كان يذكرني كثيراً في الآونة الأخيرة… زعلت، لا، يا عيني، تقولين لي: عيب…”. السؤال الذي يُثار هنا هو: لماذا اعتماد هذه الصيغة في الحوار، ولم يُعتمد الحوار الثنائي نصَّاً؟ هل يعود ذلك إلى الرغبة في التركيز والتكثيف، أو إلى ترك الشاهد يروي من دون مقاطعة، أو إلى أن يُترك للقارئ فرصة إعادة تركيب الحوار الثنائي، فيكون مشاركاً في إنتاج النص؟

يتتالى الرواة/ الشهود كما يأتي:

1- امرأة تعود إلى زمنٍ بعيدٍ لا تريد تذكُّره، عمل سلطان سائقاً عند والدها الثري. جعلها سلطان مدمنة. جرَّها إلى الرذيلة، بمعاونة القوَّادة الشهيرة سهاد. وهذه كانت تقود بنات كبار العائلات لرجال تخاطبهم بأصحاب المعالي، لينهشوا أجسادهنَّ. اضطرَّ لزواجها، مات أبوها قهراً، ثم طلَّقها، بعد أن استولى على قصر أسرتها، وطردها هي وأمُّها منه.

2- ثم ينتقل السرد إلى الماضي القريب، فيخبر الراوي أنَّ سلطان تزوَّج للمرة السادسة امرأة عشرينيَّة، وهو في السبعينيات من عمره، فتحكَّمت به كما كان يتحكَّم هو بزوجاته السابقات.

3- يروي رئيس التفتيش، في جمارك العاصمة، ما قام به “سلطان” من تهريب في الماضي البعيد، حيث كانت تأتي سيارة فاخرة ذات لوحة رسميَّة لتقلَّه من المرفأ، وتحول دون تفتيشه، ويروي ما قالته له زهيَّة: توفي والدها منذ سنتين (ماضٍ قريب). زوجة عمها الجديدة لم تنتبه لغيابه مدة أسبوع كامل، وقامت بإتلاف مقتنياته، بمجرد تحقُّقها من اختفائه (ماضٍ أقرب)، ويعود فيروي ما حدث في الماضي البعيد: تزوج سلطان من امرأة ثريَّة بعد أن طلَّق زوجته الثانية. استولى على قصرها وباعه وطلَّقها.

4- يعود سائقه الجوي إلى الماضي البعيد؛ حيث كان يمتلك طائرة خاصة، يضعها في خدمة سلطان، ويروي حادثة طائرة الأموال المهربة من العراق التي أُقفل ملفُّها، كما يروي رحلاته إلى لندن وتجارته بالفتيات من كلِّ جنسٍ ولونٍ، وبالغلمان والسلاح، ويروي ما قالته له زهيَّة عمَّا فعلته زوجته الجديدة به (ماضٍ أقرب).

5- تنشر الجريدة الأكثر شهرة في البلاد خبر اختفاء سلطان، وقيمة المكافأة، البالغة مئتي ألف دولار، وتعرِّف بزهيَّة وثروتها وعودتها من السفر بعد خمس سنوات غياب لتلتقي عمَّها، لكنَّها تُفاجأ بأنَّه اختفى (ماضٍ قريب وأقرب وحاضر)، وهذه الوحدة السردية تشير إلى أنَّ زهيَّة هي التي يمكن أن تتخذ موقع عمِّها، بعد أن ترثه، ولعلّ هذا هو سبب تركيزها على ما قامت به زوجته الجديدة من إيذاء له.

6- يعود جرجي شيخو، وهو صديق سلطان في زمن الفقر، إلى زمنٍ أبعد، فرَّا من الجيش، وأقاما في حيٍّ شعبيٍّ عرفا فيه الخادمة وردة التي غيَّر مستخدمها اسمها إلى حسيبة. فرّت هذه من اضطهاد مستخدميها، فأخذها سلطان، تزوّجها بعقد لدى مأذون زائف، وكانت زوجته الأولى، وسرعان ما طلَّقها، وغدت بغيَّاً. يعود جرجي إلى الماضي الأبعد، إلى والد سلطان الذي هجرته زوجته، وفرَّت، فطرد ابنه من بيته، فخرج هذا إلى العالم من دون أن يمتلك شيئاً.

7- يروي برهان، نديم سلطان، ما تخبر به زهيَّة عن زوجة عمِّها وعشيقها (ماضٍ قريب)، كما يروي رحلاتهما إلى أسبانيا، وجولاتهما فيها، فتبدو روايته كأنَّها قصة أدب رحلات تتضمَّن معرفة تاريخية وجغرافية وحضارية ومعرفة بالأنا والآخر في الماضي والحاضر (ماضٍ بعيد وقريب وحاضر)، ويفضي الحديث عن التاريخ إلى الحديث عن والد سلطان الذي كان أستاذاً للتاريخ، ومشغولاً به، فخانته زوجته الجميلة، وفرَّت، فتولَّدت لدى ابنها نقمة على جنس النساء، فاعتبرهنَّ، في الغالب، إمَّا عاهرات وإمَّا عاهرات. وإزاء المعرفة التاريخية، والآثار العربية، والفن: العمارة والنحت، والأدب تغيَّر سلطان، وسأل عمَّا إذا كان يشبه دون كيخوته، يحارب طواحين الهواء من دون جدوى، فأجابه نديمه: كان بطل رواية سرفانتس الأسباني يصنع الحياة، وهو يسعى إلى المجد، وأنت، في سعيك اللاهث إلى زائف المجد، تصنع الموت.

8- يروي رفيق له ما أخبرته به زهيَّة من أنَّ أحدهم ألبس شحاذاً بيجاما زرقاء، وادّعى أنَّه عمُّها (ماضٍ أقرب)، ومن أنَّ زوجة عمِّها الجديدة كانت تقيِّده أحياناً إلى السرير كالكلب (ماضٍ قريب)، ويروي أنَّ سلطان تزوج مليونيرة ليعوِّض خسارة، وسرعان ما طلَّقها بعد أن استولى على ثروتها، كما يروي رحلاتهما إلى اسطنبول فتبدو روايته هذه كأنَّها قصة من أدب الرحلات (ماضٍ بعيد).

9- يروي الرسام ملهم أنَّه كان يرسم اللوحات المتميّزة، ويوقِّعها سلطان باسمه كأنَّه هو من رسمها، فعُرف بالفنَّان الكبير، وكسب مبالغ طائلة من جراء ذلك. اكتشفت أزهار الجميلة، خطيبة الرسام المزيف، الحقيقة، فتركته، فتدبَّر أمر مقتلها هي وزوجها في حادثة سقوط طائرة (ماضٍ بعيد).

10- تروي صافيناز، وهي امرأة تزوَّجها سلطان سرَّاً، لينجب منها، بعد أن تزوج خمساً من النساء، ولم ينجب، وعندما أنجبت بنتاً طلَّقها وطردها (ماضٍ بعيد).

11- تروي كريستين، وهي امرأة الظلّ الخاصة به، أنَّها حذّرته من الزواج بزوجته الأخيرة (ماضٍ قريب)، وأنَّها عرفته منذ ترك زوجته الأولى حسيبة (ماضٍ أبعد)، وأنَّها التقته قبل أن يختفي، وبدا كأنَّ “الغول” انسحب من داخله.

12- فتاة مُدمنة، أرسلها مشغِّلها لتدَّعي أنَّها رأت “سلطان”، بغية الحصول على المكافأة، وتروي قصة عالم إدمان الشبَّان والشّابَّات.

ينتهي التحقيق، أو رواية عالم الفساد/ المسخ، من دون أن يُعرف مكان سلطان، فيعود القصُّ إلى البداية، أي إلى الإعلان عن الفقد، أي عن اختفاء سلطان، منذ سبعة أشهر، في نشرة المساء، أي بعد شهرين من الإعلان الأوَّل، وللدلالة على أهمية هذا الخبر، يكون الخبر الثاني في تلك النشرة، ثم تأتي وحدة الخروج الثانية، فيجرى التحقيق مع زوجته الأخيرة وتُبرَّأ، ويعقد أبناء مجلس الأمة جلسة للبحث في القضية، ويشكِّلون لجنة لمتابعتها، تُؤرَّخ هذه الأحداث، فيلاحظ أنَّها تجري بسرعة، إمَّا للدلاله على أهميتها، أو لتفضي إلى إعلان محامي سلطان، وصيَّة موكِّله، وتتضمن توريثه ابنة أخيه زهيَّة جميع أملاكه، فتكون هي وريثته في العالم الذي خرج منه.

العالم الآخر: النَّقيُّ الطاهر…

في التناوب المتزامن مع هذه الأحداث، يصل سلطان إلى قرية نائية، عالمها نقيٌّ طاهرٌ ساحرٌ، فيقيم في كنف سيِّدة توفي زوجها. تُروى قصة هذه المرأة وزوجها. ويقول لها سلطان، بعد أن يتعرف إلى هذا العالم : أنت ستتولين دفني، لا تدعيهم يعيدونني إلى هناك. طلقت دنياهم بالثلاث، ثم يصبح “مرعى حقيقياً لقفير نحل هائج”،  فيموت، وتدفنه السيدة في الحقل الجميل، ويصوِّر المشهد السائح الألماني، وينشر ما صوَّره على اليوتيوب تحت عنوان: “رجل النحل”. تعرف زهية ما حدث، تريد استعادة الجثة، ترفض السيدة، تريد شراء عقارات في ذلك المكان، لتقيم عليها فللاً سكنيَّةً لاستثمارها، تغضب السيدة، وتغلق البوابة.

استنتاجات:

1- سلطان، كما تفيد أقوال الرواة/ الشهود، هو الفاسد/ المسخ، وممَّا وصف به: عجينة فاسدة، الشيطان، ربُّ الدولار، في جوفه جنِّي، صاحب مئة وجه وشخصيَّة، فاجر بحقٍّ، إبليس، الغول… هو في الأصل فقير، طرده أبوه، وهو لا يملك شيئاً، لكنه كان ذكيَّاً ووسيماً، ولديه فَجَعٌ للحياة، فصار “السلطان الأعظم” الذي يرى أنَّ الطيِّب في عالمه يُداس بأحذية الآخرين كالحشرة، وكان يدرك في حالات أنَّه مثل دون كيخوته، يحارب طواحين الهواء، من دون جدوى، ثم تطوَّر هذا الإدراك، بعد أن عاملته زوجته الأخيرة، كما كان يعامل نساءه من قبل، إلى طلاق الدنيا بالثلاث، وذلك بعد أن أُصيب بالزهايمر، كما تفيد أقوال الشهود، فلعلَّه، في لاوعيه لم يفقد إنسانيَّته.

2- بغايا هم زوجاته، بنات كبار العائلات، أصحاب المعالي، القوَّادة، المسؤول الكبير، المسؤول الثاني، صاحب السيارة الرسميَّة، رجل نافذ جدَّاً، أثرياء من جميع الجنسيات، الرسام، النديم، فيلسوف وشاعر، هؤلاء جميعهم هم بغايا زمن سلطان وعالمه، لم يقل أحد منهم له لا.

3- في روايات الشهود جميعها كانت تتشكَّل ثنائية سلطان وزوجته الأخيرة، كلٌّ منهما ينتمي إلى العالم نفسه، لذا ليس من عالم ذكوري فاسد فحسب، وإنَّما عالم إنسانيِّ مسخ فاسد. يعزِّز هذه الرؤية انتماء زهيَّة وكريستين إلى هذا العالم نفسه.

4- يتعدَّد الرواة في هذه الرواية. 1– الراوي العليم من خارج الرواية. 2– زهيَّة يؤدِّي روايتها الرواة الشهود. 3- الشهود/ الرواة، وعددهم أحد عشر. 4- وسائط كثيرة، منها: وسائل التواصل، الصحف، الإذاعة، التلفزة.

5- الزمن في هذه الرواية مركَّب، وليس متكسِّراً فحسب. تبدأ الرواية بعد خمسة أشهر من اختفاء سلطان، يستمر البحث عنه ستة أشهر، تُصفَّى تركته، ويكون موجوداً بعد عام، ثم يموت في هذا العام، وهو زمن الرواية، غير أنَّ أحداث الرواية تجري في ما يزيد على الخمسين عاماً، ويتحقَّق هذا من طريق العودة إلى الماضي الأبعد والبعيد والقريب والأقرب، والمضيّ في الحاضر، ما يشكِّل بنية زمنيَّة مركَّبة.

6- تُروى، في سياق الرواية، أحداث قصص أخرى، يمكن أن تمثِّل قصصاً مستقلَّة في الوقت الذي تنتظم فيه في البناء الروائي، مثل قصة حسيبة، وقصّة إدمان الشابَّات والشبَّان المخدِّرات، ومثل قصص الرحلات إلى لندن وأسبانيا واسطنبول والقرية النائية، فهي قصص تعرِّف بالآخر والأنا وبخصوصية الفضاء المكاني.

7- لغة الرواية سليمة، وسهلة، معجمها اللغويُّ مأخوذٌ من لغة الحياة اليوميَّة، وعباراتها قصيرةٌ وبسيطة التركيب، ولا تخلو من شعريَّة في كثيرٍ من الأحيان، من نماذج ذلك، تصوير خوف الفتاة حسيبة: “كانت تنتفض بين أيدينا كطائر الدوري”. تصوير شراستها في الدفاع عن نفسها: “مزَّقت وجهه بأظفارها”، “صار جبين عمك منقوراً كفنجان قهوة”، “بعد أن ضربته بقبقابها”. ومن النماذج كذلك: “انهزم الضوء”، “الإجابات مجرد ماء في السلال”، “المال، البشر يلتقطونه، ولو على وجه الحذاء”، “معنى أن يكون الرجل مجرد زوج كالماء ينزلق على الرخام”.

في الختام

يمكن القول في الختام: تتَّخذ هذه الرواية بنيةً تجريبيَّةً قدَّمنا معرفةً بها، تتمثَّل فيها ثنائيَّة ضدِّيَّة طرفُها الأول عالم فساد يُمسخ فيه الإنسان، ويفقد إنسانيَّته، وطرفُها الثاني العالم الإنسانيُّ  الحقيقيُّ/ عالم الطبيعة النقيُّ الطاهر، والساحر، وهو العالم الأصل الذي يسكن الإنسان، فيقوده وعيه، أو لاوعيه إليه، بعد أن يعود إلى حقيقته، فيختفي من دنيا المَسْخ، ويطلِّقها بالثلاث.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى