![](https://www.lebanesewriters.org.lb/wp-content/uploads/2025/01/Cover-780x470.jpg)
صورة افتراضيَّة
أ. د. دريّة فرحات
وقفَ أمامَ مرآتِه النّصفيَّةِ التي تعكسُ قسمَه العلويَّ، يراقبُ خصلاتِ شعرِه، فيعيدُ تصفيفَها، ويغيّرُ التّسريحةَ التي اعتمدَها بعد طولِ وقتٍ من غيابِ مقصﱢ الحلَّاقِ عن شعرِه؛ فالحجْرُ فرضَ عليه البقاءَ في البيتِ أياماً وأياماً.
وتنتقلُ عيناه إلى ياقةِ قميصِه، فيعيدُ ترتيبَها مراراً، ثمّ يستقرُّ أمرُه لتعودَ إلى ما كانَت عليه.
وتمرُّ أناملُه على شاربِه ممسّدةً إياه بحنوﱟ ورقَّةٍ.
ويخطو خطواتِه بعيداً من المرآةِ ليعودَ مجدَّداً، متسائلاً: هل يظلُّ مرتدياً بِذلتَه السَّوداءَ أم يغيّرُ فيرتدي البِذلةَ الرَّماديَّةَ؟
وتطولُ حيرتُه إلى أن ينتبهَ إلى التَّوقيتِ، فيدركُ أنّه سيتأخَّرُ.. ينادي مرافقَه ليأخذَه إلى المناسبةِ التي دعَاه إليها المنتدى الثّقافيُّ المشهورُ في قاعتِه الكبيرةِ وسطَ البلد.
هذا المنتدى الثّقافيُّ الذي اشتركَ في ندواتِ أعمالِه الثقافيَّةِ عبرَ العالمِ الافتراضيﱢ ومواقعِ التَّواصلِ الاجتماعيﱢ. فقد نشطَ هذا العالمُ الافتراضيُّ، وأصبح بديلاً عن الحياةِ الواقعيَّة، بعد أن انتشرَتْ جائحةُ الكورونا في العالمِ وأدَّت إلى شلﱢ الحياةِ اليوميَّةِ وتعطيلِها، واختفاءِ مظاهرِ التَّفاعلِ بين الأفراد، والصَّخبِ النّاتجِ عن ازدحامِ السَّيرِ، وحركة الغادي والرّائحِ.
سكنتِ الشّوارعُ، وعادَتْ إلى فطرتِها الأولى. والمدارسُ أُغلقت، وهدأَتْ ساحاتُها، فبدتْ لمساتُها البكرُ، وسادَ فيها الصَّمتُ.
وهدأتْ مكاتبُ الإداراتِ؛ فلا حركة مراجعين ولا توتُّر موظَّفين، وظلَّت الحُجرات تردﱢدُ صدى الأيامِ الخوالي.
شهورٌ مضت والأوضاعُ تسوءُ.. وحدَها المشافي والمراكزُ الصّحيَّةُ تعجُّ بالصَّخبِ والحركةِ الدَّائمةِ، ورائحةُ الموتِ تعبقُ في المكانِ، ورداءُ الحزنِ يخيّمُ على الوجوه.
خواطرُ عديدة راودَتْه في لحظةِ خروجِه، وتذكّره تلكَ اللَّحظاتِ الصَّعبةِ التي بدأت تخفُّ تدريجياً بعد التَّكيُّفِ مع هذه الجائحةِ إمَّا وقايةً عبرَ اللّقاحاتِ، أو تقبَلها ضيفاً ثقيلَ الهمَّةِ، يزورُنا رغماً عنَّا.
ويلمعُ في خاطرهِ سؤالٌ… هل فعلاً يرى هذه الجائحةَ ضيفاً ثقيلاً؟!! فبفضلِ هذه الجائحة… نعم بفضلِها… يتردَّد صدى هذه الكلمةِ على شفتيه، ويتابعُ.. بفضلِها أصبحَت له هذه المكانةُ الأدبيَّةُ! فقد وصلَت أشعارُه وقصائدُه إلى عالمِ المثقفين.
كم من مرَّةٍ في زمنِ ما قبل الجائحةِ أرسلَ قصائدَه إلى الصُّحفِ، فكان موقعُها سلالَ النّفايات!!
لكنَّه مع الرَّغبةِ في قضاءِ وقت الحجرِ نشطَ على صفحاتِ التّواصلِ، وبدأَ ينشرُ كتاباتِه على حائطِ الفيس بوك، وكَثُر الإعجابُ بما ينشرُ، خصوصاً إذا أرفقَها بصورةٍ بهية، أو صورةٍ جريئةٍ يخترقُ فيها (تابو) المجتمع. وبدأت الدّعواتُ تأتيه من كلﱢ حدبٍ وصوبٍ، ليشاركَ في أمسياتٍ شعريَّةِ عبر موقع zoom وغيره.
نعم، تحوَّل العالمُ من عالمٍ واقعيﱟ إلى عالمٍ فضائيﱟ. حتى دورُ النَّشرِ بدأَت تلاحقُه، وتقدﱢم له الإغراءاتِ لينشرَ ديوانًا إلكترونياً؛ فالزمن زمنُ التكنولوجيا وعلينا أن نستفيدَ من هذا العالمِ الجديد.
ارتسمَتْ ابتسامةٌ على محيَّاه؛ فقد تذكَّرَ الرسائلَ التي بدأت تصلُه على حسابِه الخاص، فيها أرقُّ الكلماتِ من فتاةٍ من هنا وفتاةٍ من هناك…
ما أجملَ هذا الشّعورُ الذي عاشَه مع الكورونا في هذا العالمِ الافتراضيﱢ… وها هو الآن سيتوﱢجُ هذا النجاحَ في هذه الأمسيةِ التي دُعيَ إليها، ليقولَ من شعرِه في عالمِ الواقعِ بعيداً من العالمِ الافتراضي.
ويأتيه صوتُ مرافقِه يخبرُه عن الوصولِ إلى القاعةِ، فينشلُه من عالمِه السَّاحر، ويساعدُه على الانتقالِ من مقعدِ السَّيارةِ إلى مقعدِه المتحرﱢكِ ذي العجلات.. وبإشارةٍ يطلبُ منه أن يتركَه ليدخلَ بمفردِه من دون مساعدةٍ؛ فالقاعةُ أرضيَّةٌ وليس فيها درجٌ يعيقُ تحرُّكه.
ويبدأُ بجرﱢ الكرسيﱢ، وصخبُ الحاضرين يصلُه، وأصواتٌ تعوَّدَ أن يسمعَها عبرَ أثير الشبكةِ العنكبوتيةِ، فيتابع المسيرَ ويدخل واثقاً من نفسِه.. ينتظرُ أن يحتفي به الجميع.
ها هو قد أصبحَ في وسطِ القاعة ينتظرُ تهافتَ الجميعِ عليه.. وكم أدهشَه أنَّ لا أحدَ يلتفتُ إليه.. وإذا حانتْ نظرة صوبه، كان فيها الكثيرُ من العطفِ والشَّفقةِ. ينتحي جانبًا ينتظرُ بدءَ الاحتفال…
يسمعُ أصواتاً تتساءلُ عن سبب تأخُّرِ الشَّاعرِ الفذﱢ الموهوبِ؛ فالجميعُ بانتظارِه ليعتلي المنبرَ شامخاً، يصدحُ بصوتِه، مطلقاً العنانَ لأشعارِه.
عندها يتراجعُ قليلاً إلى الوراء وينزوي في زاويةٍ بعيدةٍ لا يراه فيها أحد… يعودُ إلى هاتفِه متصلًا بمن دعاه، معتذراً عن عدمِ الحضور، متحجّجاً بأنَّه على الرغم من اللّقاحات، فإنَّه يشعر وكأنَّ عوارض (الأومكرون) قد أصابَته.
وهنا يعلو صوت محدﱢثه قائلاً: لن نفوﱢت هذا اليوم.. وإن لم تستطعْ أن تكون بيننا حضورياً، فيمكنكَ أن تبرزَ معنا عبر الشّاشة؛ فالقاعةُ مجهَّزةٌ إلكترونياً ومتَّصلةٌ بالشبكةِ العنكبوتيةِ.. ويسمعُ أصواتَ الحاضرين المهللين المصرﱢين على مشاركتِه، والآسفين على عدمِ وجودِه بينهم.
يستعدُّ للأمرِ ويعودُ من جديدٍ إلى الدُّخولِ عبر الرَّابطِ الذي أُرسلَ إليه…
يرتجلُ قصيدةً مطلعُها: شكراً كورونا.