رحلة البحث عن الجذور – الدكتور محمد وهبي
رحلة البحث عن الجذور
الدكتور محمد وهبي
الأب:
إنها الطفولة الأولى، بدايات التكوُّن ورسم المسارات، يحدِّد الأب بدءاً انتماءه الأكيد، معولٌ ريفيٌّ جبليٌّ يحرِّك تراب الأرض ويداعبه لينتشر بين الذرات والشقوق هواء الحياة الندي ليتنفسه الشهداء. أحياء في باطن الأرض. هم الشهداء، إنهم لا يموتون أبداً يا بُني.
قد لا يروق لك الدليل يا مكرم، فلا يغويك عبق الأرض ولا تهز مسامك رائحة التراب، فإليك بالماء إذن، تعلَّم وتذكَّر أن النبتة المزروعة في الماء يقتلها عطش الانتماء أيضاً. حنين العودة الأبدي إلى الجذور إلى التراب حيث الأصل والانطلاق والتكوُّن.
إن نبتة الخلود الغارقة في لجج الماء يا مكرم تشتاق إلى تربتها وتتوق إلى منبت قديم كان في أصل وجودها وفي لب كيانها وفي صيرورة نموِّها.
إنها المادة الأزليَّة الأوليّة بتمازج أجزائها وعناصرها وبكل تحوُّلاتها تراباً وماءً وهواءً، وإن أُغضِبَ طاليس ومريدوه، ولن أترك لأمك سوى النار أشئت ذلك أم أبيته.
الأم:
إنها الطفولة الأولى بدايات التكوُّن ورسم المسارات. تحدِّد الأم بدءاً انتماءها الأكيد، تحمل المحال صليباً يعصى على الكسر لتتحدَّى أعنف الكينونات وأقدرها على الابتلاع والإبادة، تمسك خيطان النور بأطراف الأنامل، ترتق الثقوب السوداء في قميص الطفولة المخلَّع وتحوكه من جديد. لن يفيدك الإفلات من المدارات يا مكرم ولن تكون ركاماً ذريَّاً للثقوب.
إنه الانتماء الشفيف وأنت العائد والطارق والحبيب.
تقول أمي إذا لم يقنعك الفعل أو الكلام ولم تفترش مجالك الدماغي براهين أقرب إلى الخيال والسحر، فاعلم يا بني أن تزرع شجرك ولو في القلب، لتلجأ إليك العصافير التي تحب، لتأنس بك، لترى فيك الأمن والحنان والدعة.
افعلها إذن واعلم أن الحلول في الذهن أو القلب أو التراب هو وحدة الوجود الذي لا تنفصم ولا يقبل إلا ظاهر الانقسام والتجزؤ .
الطفل:
ولكن من أنا؟؟ أنا الطفل الغارق في الرؤى والخارج من تغول الحسابات ومنطقها الجاف والغريب.
لقد غرّرت بي الأحاسيس، فبَعُدَ البحر ودنَتِ الشمس وبأنامل الحياة ذاتها صنعت سفناً من ورق، كللتها بالشمس بحّاراً يجوب المدى ويبحر فوق ظلي.
لاعبته في رحلته وإبحاره، طاردتني عيونه وهدأتني ضحكته، وعندما ماج به التراب الورقي، ماج الغرق في عيني العميقة الغور، إذ سألته عن رفيقه الحميم الظل، لقد عاد الظل إلى الأصل، ثم ذكرني بأن السماء وهي تمطر إنما تعود بدورية أبدية إلى الجذور، إلى التراب، الأرض إلى الانتماء فلا تأخذك الدهشة إذن فإن في الأرض جذوراً كالأنهر.
كبرت إذن وعدت لحواري مع الشمس، ها هي الشمس بسطوعها النوراني تدب الدفء والحياة وتخسر أبصارها، أين فيها العيون الشاخصة والناظرة ولو إلى حين؟ ألا ترمقني بنظرة خجلى؟ ولأني لا أحب الاستسلام ولا أرضى بالهزيمة، أراها تتبسم لي وتغازل غياهب خيالي المجنج لأدبج معالم تسويات كبرى بين الطفولة والصبا.
ها أنا ذا خارج من طفولتي، كبرت إذن ورحت أبحث عن وطني.
في رحلة البحث الدؤوب هذه، خانت الذاكرة الطرق إذ هجرتها الأقدام وحلّت بها ريح السفر وحمى المغادرة، ولكن الزهر الضنين بشغفه أنبت في الأرض حدائقه وبسط سلطانه في مدى الرؤى وكان اللقاء.
قالت المرأة: الحب رياح ونحن أجراس من قصب، خُيل إلي أن حضنها وطني.
فقلت إنها حكاية العودة أيضاً. إنها المرأة الأم، المرأة الحب، أنه التراب، أنه حضن الوطن.
ولكنني وأنا من أنا خبرت الحياة والعالم والكون أو كل ما تجلى فيه أو استتر، قلت لها أن الرياح وهي تضطرب وتغضب تجري لمستقر لها: إنها الجذور إذن.
أتعلمين أي عشق يعبث في الريح: إنها الموسيقى حيث تتناغم الأكوان والكائنات والذرات وما دونها وكل الحقول الموجية وأطيافها في سمفونية الوجود الكلي، إنها الموسيقى إذن حيث وشى فيتاغور جمالها وزيّن أمداءها. أقول هذا وأعلم علم اليقين أن الطين السومري – البابلي قد أوحى لكل من لحقه على مرور الزمن بهذا الجمال الآسر الرائي لسحر الموسيقى عذوبةً وعذاباً.
ها أنا خارج من الطفولة إذن، وها هي الأسئلة القديمة الحيّة تجد أجوبتها الأكيدة.
لقد كبرت إذن وعدت إلى الجذور، إلى الأب البهي الجلي. عدت إلى معوله لأقلب تراب قلبي حيث يحيا الشهداء فيه وحيث يستقر الانتماء بجوهره.
لقد كبرت إذن وعدت إلى أمي الخافية المستترة لأسقي الشجرة المزروعة في هذا القلب منذ طفولتي لكي تعود إليها العصافير. عدت إليها إلى حيث تبدأ الحياة دورتها الجديدة وإلى حيث يستقر الانتماء بجوهره ويحيا.
إنها الجذور إذن كل الحكاية والتاريخ والعشق والشهادة والميلاد.
فلا بد من العودة حيناً بعد حين.