طوافٌ مع النَّص – الأستاذة هدى الخوري
![](https://www.lebanesewriters.org.lb/wp-content/uploads/2025/01/Cover-780x470.jpg)
طوافٌ مع النَّص
الأستاذة هدى الخوري
نصٌّ يدعوك لولوجه بقدَمي طفل يتأهَّب للقفز بين دوائر تبدو كلوحاتٍ فسيفسائية صغيرة، يغلب أحد الألوان على واحدة منها فتغريك بالانتقال الى جارتها وأنت على يقين بأنهما منفصلتان بفعل تغيُّر السطوة اللونية، فهنا غلبة لألوان السماء وهناك غلبة لألوان التراب.
رحلة البحث عن وطن، قماشة مغطّاة بمنمنمات وجزئيات تشكِّل دوائر تامّة حيث يلتقي العطش وفيض الماء، وتلامس خيوط النور الثقوب السوداء، وتحبو الطفولة الفردية في حضن طفولة الحضارة الانسانية، وحتى نبتة الخلود تعلن حاجتها الانتماء للأرض، ويطرب الشهداء لضربة المعول إذ تقلب التراب، فيتنفّسون. كأنّما الكلمات تحاول تشكيل المعنى بين قطبي المتناقضات، وتحاول عزف المعنى بإيقاع يتكرّر بغير تطابق.
فتات صور تنثرها ريشة طفل له مقاييسه وأبعاده ومساحاته اللونية، بحره أبعد من شمسه الفرحة بملاعبة الظلال بوجه بحّار تُدوِّر الدهشة عينيه ويرسم الفرح ابتسامته، صور تجتمع متداعية من أعماق الذاكرة، ترسم مسار بحث عن المعنى، عن الانتماء.
قفزة في الزمن تتقلَّص معها شساعة اللوحة ليغرق ظلّ البحر في جوفه فينطق الماء بلغة الانتماء وتتماهى الأنهار بالجذور وتستعيد السماء أصالتها مطراً. قفزة زمنية، وتغيب عن وجه الشمس عيناها وتتلوّن ابتسامتها أملاً.
قفزة مادّية تنقلك إلى عملية تحاول تجسيد الانتماء، تليها قفزة عاطفية تذيبك بألوان شفّافة تفتح فضاءات الروح، معها تُحمل الى إدراك أنّ اللوحة إنما هي لوحات تطوف بك على مدارات تحيلك الى ترابطها من خلال ما تتركه ظلال الخيال على الوعي فتتشكّل المعاني لتزيل اللَّبْس عن المسافات، غير أنها تكوّر الزمن دائريّاً محاولة وصل الأمس بالغد.
وعلى مسار الزمن الدائري تختلط الألوان فيكون التطلُّع الى الأمام تطلُّعاً إلى الخلف، وكلّما ابتعد الماضي اقترب من الآتي وأنبتت الدروب زهر النسيان وتناثر رذاذ الذاكرة وتحوّل الدرب الذي هجره خطو الأقدام حديقة تنبت ثنائية لقاء المرأة – الحب. وفي الحب حركة الرياح، والحركة بحث عن الجذور.
نصٌّ كلما أوغلتَ فيه ابتعدت عينك الرائية عن سطح اللوحة لترى شمولها فتنجلي الدائرية الكلّية الحاضنة لدوائر الجزئيات بانسجام وانسياب وترتبط النهايات بالبدايات، وتلملم امتدادات الرحلة محيطها ومحطّاتها لتتكثف في القلب، فيقلب معول الأب تراب القلب وتسقي الذكريات زرع الأم لتعشّش في حناياه العصافير العائدة.
لوحة فيها من الزخرف البدائي عنصر التكرار البديع حيث تُحفَر بقصديّةٍ مراكمة الأثر فتستعاد الكلمات لتصاغ بها نفسها معانٍ جديدة تفتح على آفاق الدهشة والأسئلة الوليدة، وتقدّم اللوحة فضاء يعيد اللحمة بالإنساني الأصيل فلا ينفصل الوجداني والروحي عن المادي والعملي وتنسج عناصر التكرار في الشكل ما يربط النهايات بالبدايات في حركة لولبية تصعّد في الزمن، ربما من الأفضل تسمية هذا النوع من النصوص “النص اللولبي” لأن النهايات لا تتطابق مع البدايات بل ترتفع عنها من حيث الاقتراب من غاية النصّ.