المجلةثقافة الإبداع

كينونة المعنى والمبنى في النص – الأستاذ خليل عاصي

كينونة المعنى والمبنى في النص

الأستاذ خليل عاصي

يمكننا القول إنَّ الشعرَ كُمُونٌ أصيلٌ في جوهر الإنسان، بمعنى أنه تلازمٌ لا فِكاك فيه، بل إن الشعر هو الذي يستنطق حضور الإنسان وانفعالاته ليكتب قصيدته في هذا الوجود، لذلك يصح القول إن مطلقَ إنسانٍ هو قصيدة سيلانية تبدأ بولادته لكنها لا تنتهي بوفاته، إذ إنَّ الشعر – بما هو روح –  أعلى من المادة، وبموت المادة تتكشف أبعاده وتأويلاته التي تحدِّد ديمومته في الوجود بحسبان أن الإنسان كائن مُؤوَّل. فإما أن يكون قصيدة متجدِّدة دائمة التأثير وإما أن يضمر ويتلاشى.

وهنا نصبح أمام مساءلة حقيقية حول ماهية الشعر وكيفيته، كيف يمكن في ظل هذا التماهي بين الإنسان والشعر أن يكون دائم التجدد والتأويل؟ وما هي موضوعاته وأدواته؟، لقد دأب المفكرون والفلاسفة على تحديد تعريف دقيق للشعر دون أن يبلغ أحدهم ذلك.

فبين مقولة أرسطو: “إن الشعر أكثر تفلسفاً وأهم من التاريخ؛ لأن الشعر يتعامل مع الكليات، والتاريخ يتناول الجزئيات”، وبين تعريف قدامى بن جعفر: “إنَّ الشعر هو الكلام الموزون والمقفى الذي يدلٌّ على معنى”، بَونٌ شاسعٌ، وانفصالٌ تامٌّ، فالأول يتناوله غائيَّاً والآخر ظاهراتيَّاً يريد أن يحدِّد له هويَّةً شكليَّةً تدلُّ عليه بعيداً عن موضوعه والقيمة التي يحملها.

لا يمكننا تجاهل أنَّ المحرضَين الأساسيَّين على قيامة الشعر هما الجمال والوجود، فإذا كان الشكل الخارجي يُضفي شيئاً من الجمال ويُبرز بعض مفاتنه (الميكاب)، يبقى الجمال الحقيقي في المضمون وما يحتويه من لغةٍ فارقةٍ ومعالجات متفردة ومبتكرة. وإذا كان موضوع الشعر هو الوجود، فالحريّ به مساءلته في العمق، واستنطاقه في غير المرئي والمعلوم منه مستعيناً بالخيال الخلاق. فلا يستطيع الحديث عن العدم إلا الفلسفة والشعر كما عبَّر هيدغر، الذي يرى أيضاً “أن جوهر الفن هو الشعر، ولكن جوهر الشعر هو وقف الحقيقة، فن الشعر ليس سوى تصميم منير للحقيقة”.

بالدخول إلى تجربة مكرم غصوب الشعرية، نجد أنها متحدِّرة من سنخية ما تقدَّم، درى ذلك أم لم يدرِ. وبالتالي ليس غريباً أن نقتبس من هيدغر مفهوم الكينونة في عنوان هذه المقالة، الكينونة أو الدازين أو وجود الإنسان بما هو هناك، الإنسان المشروع الذي تتغذى هويته من الوجود فتنمو وتتغيَّر، هوية دائمة التشكُّل والتبلور، وإذا أسقطنا هذا المفهوم على نص مكرم نجد أنه موائم له إذا لم نقل إنه منبثق عنه، إذ إنه لا يقارب الفكرة وجوديَّاً فحسب، إنما يبتكر قوالب المبنى التي تناسبها في قلقها الوجودي أيضاً.

فمنذ مجموعته الشعرية نشيد العدم، يتحرَّى غصوب الغيب والبحث في الأماكن المهجورة للتنقيب عن آثارٍ مُوَلِّدَةٍ لِمَعانٍ جديدةٍ، وعما هو مختلف، بمعالجة تتقاطع أحياناً كثيرة مع تفكيكية جاك داريدا فيما خصَّ الإرجاء والاختلاف والأثر، مصطحباً معه أدواته الخاصة في التنقيب، فهو لا يبحث فقط عن المُهمل لإعادة إدخاله في الوجود من بوابة الجمال، إنما يبحث أيضاً عن الأداة التي تمكِّنُه من ذلك. في نصه “رحلة البحث عن وطن”، يستخدم مكرم غصوب قوالبَ دائريَّةً مرصوفةً على شكل طبقاتٍ، تتحرَّكُ بين الحضور والغياب، الموت والحياة، اليأس والأمل، الوجود والعدم، والتي هي بدورها في أغلب الأحايين رموز لثنائيات تتقمَّص دلالات لرموز أخرى، لكنها دوائر غير ثابتة تتَّسع دائماً بشكل حلزوني لتشكِّل الوحدة الموضوعية للنص. فبينما يضرب أبوه الأرض بالمعول ليتنفس الشهداء، تحوك أمُّه بخيط من نور الثقوب السوداء. وبالتالي إنها دائرة مفتوحة على دوائر أخرى تشكِّل العلاقةُ البطانةَ الموضوعيةَ وجوهرَ الرَّبطِ بينها.

يقول غصوب:

“كان أبي يقول لي:

النبتة المزروعة في الماء

يقتلها العطش إلى الانتماء،

حتّى لو كانت “نبتة الخلود”.

كيف لنبتةٍ مزروعةٍ في الماء أن تكون عطشى؟ ثم هل يمكن لنبتةٍ خالدةٍ أن تعطش إلا إذا كان هذا العطش من نوع آخر غير ذلك الذي يألفه الإنسان؟. إنه عطش الانتماء إلى الوطن، إذاً، هو عطشٌ وجداني يتمثل قيمة الانتماء. وهنا يبدأ التساؤل واستدعاء الخيال، هل هذا العطش ناجمٌ عن الثبات على الحال، والمكوث في الجمود؟ هل هو التوق إلى الحرية بما يتخللها من صعود وهبوط وقلق يشكل جوهر الحركية؟ هل هي صيرورة الإنسان حسب تعبير هيروقليطس “لا يخطو رجلٌ في نفس النهر مرتين أبداً”؟، وهذا يقودنا إلى سؤال أكبر، ما هو هذا الانتماء وما هو هذا الوطن الذي يبحث عنه مكرم غصوب، هل هو الوطن الزمكاني أم الوطن الهيولاني الذي تنبثق منه الحقيقة؟

كل هذه الأسئلة هي دوائر مفتوحة على أسئلة في دوائر أخرى جميعها يتحرَّك على مسرح واحد هو الوجود.

“وكانت أمي تقول لي:

تحبّ العصافير

ازرع شجرة،

ولو في قلبك…

يومها، كان البحر أبعد من الشمس؛”

على الرغم من أن موضوعات مكرم موغلة في التجريد والرمزية، إلا أنه دائماً ما يمزج بين الوجدان العاطفيّ والفكرة، ليقدِّم للقارئ طبقاً منكَّهاً بمطيِّباتٍ خاصة، فتجد نفسك عاجزاً أحياناً عن تحديد مكوِّناته، لكنَّك تستمتع به وتجده لذيذاً وآسراً. ولعلَّ شجرة مكرم هنا هي الحب الذي يُمكنه احتواء كل الأفكار- العصافير لتبني أعشاشها كيفما شاءت.

في بطن النصّ يحاور مكرم غصوب البحر حواراً ندياً، لا يعبأ بالموروث ولا يخاف المآلات، حواراً متخفِّفاً من الثوابت يتحرى الحقيقةَ وحدها، فنراه يؤنسن الأشياء والوجود، مثلاً الشمس بلا عينين، طريقٌ ذاكرتها مفقودة، ولكنه أيضاً يقوم بتشييء الإنسان حين يقول في استعارة لافتة نحن أجراس من قصب، وكأن مكرم في وعيه أو لا وعيه يتحدث عن وحدة الوجود الموضوعي، ففي كل شيءٍ شيءٌ من شيءٍ، وجودٌ تحرِّكه الموسيقى التي هي عند شوبنهور أعمق وأدقّ تعبير عن طبيعة الإنسان والوجود. صحيح أن مكرم يتخلى عن الموسيقى الإيقاعية والشكلية في النص، لكن من الواضح جداً أنَّه متمسك بالإيقاع الداخلي للمعنى، لا بل هو لا ينتمي إلا إلى الموسيقى بحسب تعبيره.

“قالت لي:

الحبُّ رياحٌ.

ونحن أجراسٌ من قصب…

فظننتُ حضنها وطني،

وقلت لها: تعالي ننتمي للموسيقى”.

بالوصول إلى خاتمة النص، تجد نفسك أمام اكتمال دائرة وانبثاق دوائر مسكوت عنها تترك للقارئ حرية التأويل وإعادة كتابة النص من منظوره الخاص:

“فأخذت معول أبي

أقلب التراب في قلبي،

وأسقي شجرة زرعتها في طفولتي

كي تعود إليها العصافير…”.

إنها ولادة جديدة، فبعد أن ابتدأ الكاتب نصَّه:

“حين كان أبي، بمعوله

يقلب تراب الأرض

ليتنفّس الشهداء

كانت أمّي،

بخيط من نور،

تحوك الثقوب السوداء”.

يعود في نهاية النص إلى تكرار المشهد ذاته، لكن هذه المرة وحده يستأثر بالمشهد بعد غياب الأم والأب، حيث تكتمل الدائرة فيرث الكاتب معول أبيه وشجرة أمه ليصبح هو المُوَرِّث لمن سيأتي بعده، بعد أن يضفي على ذلك الإرث تجربته الخاصة ويرفده بالجديد، وما تكشّف له خلال رحلته، ثم يترك المهمَّة لغيره لكي يكون شريكاً في كتابة القصيدة المطلقة، قصيدة الإنسان والوجود الأصيلة.

أخيراً يمكننا الاستخلاص إلى أن نص مكرم غصوب مشيَّدٌ على علائقَ بين صيرورات دائرية مكونة من طبقات عدة، تبدأ من الذاتي ثم تمرُّ بالآخر إلى أن تنتهي بالكليّ الذي يفضي إلى صيرورة كبرى يكون الإمساك بها ضرباً من ضروب الاستحالة، لكن، يبقى التشويق والجمال في المحاولة التي يتكشَّف من خلالها المزيد من الأسرار الكامنة. إنها صيرورة مستمرة لا تمكث على حال ولا تستوي على جوديّ، لكنَّها تضجُّ بالجمال والأسئلة المحرّضة التي تسعى دائماً إلى تدشين حقول جديدة في الشعر والتأويل والإبداع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى