![](https://www.lebanesewriters.org.lb/wp-content/uploads/2025/01/Cover-780x470.jpg)
فخُّ الخواجه[1]
عدي الموسوي
-1-
الخواجه جالسٌ قبالي، غموضُ صمتٍ، وملامحُ الوجه زخرفةٌ متشابكة في سجَّادة فارسية معتَّقة!
يسري الخدرُ في عنقي، ينحدرُ أمواجاً رائقةً نحو ذراعيَّ المقيَّدتين إلى الجدار بسلسلتين من الفولاذ، لتسمحا ليديَّ بالحرية ما دمت جالساً على مقعدي الخشبيﱢ.. فإذا نهضتُ لم أقدر على التقدُّم إلَّا خطوتين.
على إيقاع غيظي المتصاعد تنتقل شكوك نظراتي بين كأسي، وبين الخواجه، محاولاً فكَّ طلاسم وجهه النحيل ذي اللحية الشهباء، والابتسامة المحايدة، المتوشّحة بلطافةٍ ساخرة. أمّا خادمه (عبد الحي) الكهل الأخرس، فكما عرفتُه من سنين، وجهٌ باردٌ جامد، وعينان خاملتان بسوادٍ كظلمةِ بئرٍ مهجورة، واقفاً خلف سيّده، حاملاً إبريقاً من شراب التوتِ المَرَاغيﱢ.
أُرتّب أفكاري بذهني المرهق:
– “السرُّ في هذا الشراب، ما في ذلك شك، والغدرُ تسلَّلَ إليَّ من حلاوته”…
فهل اسـتدرجني الخواجه إلى فخﱟ مُحكَم؟ أم اندفعتُ متواطئاً نحو انتحار رحيم هرباً من إعدام مرعب سيتفنَّنُ به جلَّادو هولاكو؟!
خلال عتمة أيَّام حبسي هنا، كنت أقدﱢرُ الوقت نهاراً بما يتسلَّل من نور الشمس عبر ثقب في الجدار وينعكس على صفحة الحائط المقابل.. فأستعيدُ بهذا المنظر ذكريات اشتغالي في قاعة الإسطرلابات العملاقة في مرصد مدينة مَرَاغة حين كنت مع رفاقي نتتبَّع الشمس وأفلاكها المتغيّرة عبر شعاعها المنعكس على الجدار الداخليﱢ الشماليﱢ للمرصد، وندوﱢن ذلك في سجلَّات وجداول، بإشراف الخواجه نصير الدين؛ أستاذي الخواجه: أستحضرُ ملامحَ وجهه عندما أنبأتُه بقراري الخطير، فأربكني ما انعكسَ في عينيه الذكيَّتين الداكنتين: أشباحٌ تراكمت كأكوام النجوم في سواد ليلةٍ صافية لتعتصر من فؤاد رائيها تأوُّهاتِ الانبهار والإحساس بالضآلة. لكنَّ التماعَ عينيه ذاك أفلتَ –أيضًا- وحوشَ الشكﱢ من سراديبها لتشرعَ في نهشي وجَعلي أخشى وشايته بي؛ فهو لم يُجبني بأيﱢ كلمة، بل رفع راحتيه -على طريقة قومه الفرس- ومدَّهُما نحوي قليلاً، فلم أفهم مراده.. أكان يرحّبُ بما أنويه ويحثُّني على إتمامه؟ أم يتغافل ويتواطأ؟ أم يتهرَّب من إعلان صراحةِ الموقف؟! فغادرتُ مدينة مَراغة ومرصدَها في الليلة ذاتها. هجرتُ مجالسَ العلم وجِنانَ الكُتب.. حملتُ سيفي، وكُلّي أملٌ بأحلام ثورةٍ عارمة ستطيحُ بحكم المغول الغزاة، ولكن…
ويزداد الخدرُ في ذراعيَّ، وتتكاثر أثقال رأسي. لكنَّ ذهني ما زال صافياً بما يكفي لأفهم المعنى الحقيقيَّ لابتسامة الخواجه: لقد أوقعني في فخّه وغدرَ بي، وإنَّه السمُّ يبثُّ مواته في أعصابي وشراييني! فلماذا يقتلني الخواجه بهذه الطريقة؟ ألم يكن قادراً عليها قبل مغادرتي مَراغة؟ ولماذا يزورني بعدما حوصرتُ بين قرنَي هولاكو وباتَ حتفي قريباً؟ أيريدُ الشماتَة بي؟ أم إثبات أنَّه على حقﱟ مؤكّداً بحضوره انتصارَه عليَّ؟ فأيُّ انتصارٍ هزيل تطلبه يا خواجه من تلميذك السابق المقيَّد في جوف زنزانةٍ قذرةٍ مُعتمة؟! ما أغرب سلوك العلماء حين يغدون خدماً للطغاة!
على امتداد أسبوع قبعتُ هنا منتظراً ساعة الإعدام، بعدما لاقت ثورتي فشلها الذريع. أعددتُ لها شهوراً طويلة، وحشدت لها الأموال والأنصار، وعند أوَّل اختبار تبعثر الجمعُ وتشتت بين قتلٍ وفرارٍ وخيانة. وقعتُ في الأسر، حشرت في هذه الزنزانة أو الطامورة، تُرمى إليَّ فضلات الطعام، ولا ينير وحشتي ووحدتي إلَّا لسان أشعة الشمس المتسلّل إلى زنزانتي. فيما كان الباب يفتح أحياناً ليطلَّ رأسُ الحارس عابساً، مُبَربِراً بألفاظ كهزيم شياطين الجحيم. لذا، فحين أطلَّ وجه الخواجه من باب الطامورة، حسبتُني أتورَّط مع أحد أحلام اليقظة، تلك التي تطلقها أوهام انفراد المرء بنفسه أياماً متوالية تحت وقع خناجر الشكﱢ والغيظ والحسرة.
ها ثالثُ صمتَينا صمتُ الخادم (عبد الحي). أمَّا إنارة حبسي فزادها مشعلٌ أتى به أحد شياطين السجن قبل أن يتركنا وحدنا.
فجأة، يرنُّ انكسار الصمت كزجاج تهشَّم بصدًى فاضح:
- أجئتَ تشمتُ بي؟ أم لتلقّنني الشهادة قبل أن يقطّعني جلادو سيّدك هولاكو؟
يستفزُّني بريقُ الغموض في عينَي الخواجه، ويزيدُ من غيظي رفعُه لراحتيه بتلك الكيفية: أمحايدة هي؟ أم لعلَّها متوازنة ككثير من المعادلات الرياضية التي كان يتلذذ بالغوص في غموضها، ويورﱢطنا معه بطرائق حلّها وانتهاك سحرها المنطقيﱢ؟! أشعر من جديد بالتباس علاقتي بأستاذي هذا: أنا لا أنكرُ فضلَه وعلمَه وأبوَّته لكلﱢ علماء مرصدِ مَرَاغة، ولكنها خيبتي التي تخنقني لإدراكي أنَّه وزير مقرَّب من هولاكو: غريمي الذي سيقتلني قريباً.
سريعاً تمرُّ في خيالي ذكريات السنوات الماضية: اجتياح المغولِ مدينة بغداد، إطاحتهم بما تبقى من هُزالِ دولة العبَّاسيين، دمارٌ وخرابٌ وتنكيلٌ، ذهولُ الهزيمة المدوﱢية يبعثر شملنا نحن أساتذة (المدرسة المستنصرية) وطلابها ببغداد، أيَّامُ الخوف والقنوط حين صرتُ أنا ووالدي شريدَين طريدَين خوفاً من القتل أو الأسر أو الموت جوعاً. ثقيلةً كانت شهور التشرُّد قبل أن نسمع عن الخواجه نصير الدين الطوسي الذي يبحث عن العلماء ويُراسلُهم باذلاً لهم وعود الأمان والمال إن هم التحقوا به، ليعودوا إلى حياة الدرس والمعرفة. تحايلنا على علقم هزيمتنا، وتشبَّثنا بولعنا بالعلوم، فالتحقنا بالخواجه، دخلنا طوعاً في حبائل فخّه الحريريﱢ، ورافقناه إلى مدينة مَراغة، عاصمة هولاكو. وهناك، شهدنا بناء مرصدها الهائل، وتوطَّنَّا في مكتبته العامرة، وانضممنا بشغف إلى حشود العلماء الذين ملأوا الأركان بصخب المعرفة والبحث والدرس. وبعد وفاة والدي غمرني الوزير بعطفه الأبويﱢ، وغدوتُ واحداً من أبنائه غير النسبيين.
لكنْ برغم هناء الأمان في مراغة، فإنَّ اسـتذكارَ أفعال المغول، والقـيحَ المتراكمَ في نفسي من جرح سقوط بغداد.. كلُّها أمور أخذت تنقلني من حالٍ إلى حال، وترمي بداخلي بذورَ التمرُّد بعدما وجدت أننا غدونا أعواناً لهولاكو الذي ولَغَ بدماء الخلق وأباد المدن ودمَّرها. انتظمنا جماعةً من شبَّان المرصد نبوحُ بأفكارنا الجريئة في مجالس نائية حَذِرة، غازلتْنا فيها أمانيُّ البطولة والإقدام بالثورة ورفع السيف بوجه الطغاة وطردهم إلى حيث جاءونا بموتهم وخرابهم. وحين اكتمل بدرُ أحلامنا، انفردتُ بالخواجه، وصارحته بتمرُّد أفكاري وأحلامي. غابت ملامحُ وجهه خلفَ حجاب شمعيﱟ صفيق، وخلف راحتيه المرفوعتين بصمتٍ وترقُّب وغموض. فمُلِئتُ منه غيظًا. وكم شعرتُ بالرضا حين أفلتُّ من فخّه المزركش بزينة العلم وتزويق المعرفة، ورفعتُ سيف التمرُّد والعصيان…
وها هو الخواجه في طامورتي! يحبك حولي فخَّه الجديد، أو ينجز أفعوانيات الزخرفة في سجادته الفاخرة الجديدة مغمَّسةً بحمرة دمائي. مجدَّداً يرفع كفَّيه الممدودتين بتوازن ويقول بحسم:
- مثلي لا يشمت بمثلك!
يومئ لعبد الحي ذي الصمت الأبديﱢ، فيُخرج الخادم من تحت جلبابه إبريقاً وكوبين. يسكبُ لنا فيفوحُ الأريجُ العذب متوازناً مع عطن الهواء المحبوس. وإنَّ أستاذي الخواجه ليقدﱢمُ لي كأسي بنفسه:
- هاك، شرابك المفضَّل…
- عصير التوت الممزوج بماء الزهر؟ أنت لم تنسَ شيئاً!
- ولا يجدر بي أن أنسى!
مع أوَّل جرعة تتسلَّلُ عذوبة النكهة فتتشرَّبُها حواسي، أخمّن اقتراب نهايتي، وأنَّ في لذة الكأس تحقيق لأمنية أخيرة تُبذل للمحكوم بالموت قبل مقتله!
يتحدَّثُ الخواجه بنبرة العطف لا الحياد والغموض:
- أجل، ما زلتُ أذكر أنَّه شرابك المفضَّل يا بُنيَّ!
- بُنيَّ؟! وأيُّ أبٍ هذا الذي يتفرَّج على أبنائه يقتلهم وليُّ نعمته الطاغية هولاكو؟!
تغيظني برودةُ نظراته وإشارتُه بسبابته نحو كأس الشراب تأمرني بتجرُّعه! أطيعه، قبل أن ينفجر في جوفي غيظ تراكمَ منذ أسري، وترنُّ سلاسل قيدي وأنا أهزُّ قبضتي بغضب:
- فلتهنأ بأمجادك يا وزير؛ يعمل تحت يديك عشرات من خيرة علماء الدنيا، وأنت سيّد مرصد مراغة بما فيه من آلات حساب وفلك تفوقُ الوصف، وبمكتبة فيها عشرات آلاف الكتب!
يرشفُ أستاذي من كوبه، ويضيف حالماً وهو يتلمَّظ مستمتعاً بنكهة التوت:
- وأزيدك أيضاً بأنَّني أقنعتُ هولاكو بِجعلي مشرفاً على أوقاف المسلمين في دولته، على جميع الأوقاف!
ساخراً يعلو صوتي:
- وأظنُّك تخبر من حولك بأنَّك بهذا ستحفظ الأوقاف من الضياع، أليس كذلك؟
- أحسنت، هو ذاك!
- أهي جرعة مخدﱢرٍ أخرى، كما خدَّرتَنا بزَعمِ أنَّ وجـودك في حاشــية
هولاكو أنقذ العلماء وتراث علومنا؟ صدَّقناك فأوقعتنا بفخّك المحكم!
- لم أوحِ لكم بشي، بل هذا ما يقوله بوضوح مرصد مَرَاغة. وأهل العلم يقصدونه من أصقاع الدنيا، فمنهم من نهل من ينابيعه ما شاء قبل أن يغادر، ومنهم من ارتضى المكوث فيه والتنعُّم بفردوسه.
أُطرق مفكّراً، أرشفُ من كأسي جرعة طيبة، أسمعه يستدرك قائلاً:
- لا يا فتى، لست أخدﱢركم، لا بكلامي ولا بفعالي..
عند هذه الكلمات ينضح الخدر من فقرات عنقي دفقة تلو دفقة، ويسحُّ منحدراً نحو كتفيَّ وذراعيَّ ويتغلغل في أنحاء صدري. يزعقُ حديد أغلالي وأنا أرتجف في نوبة غضب متهالك:
- لكنَّ التاريخ لن يغفر لك انضمامك لحاشية السفَّاح هولاكو!
ها عبد الحي الأخرس يُقطّب حاجبيه ويُطرق برأسه مفكّراً.. ألتفتُ لأوَّل مرَّةٍ إلى تمازج الأعراق على صفحة وجهه: عربيةً وفارسيةً وتركية. أمَّا الخواجه فيُطلُّ الغموض من لغز شفتيه، فأتابع:
- ستقول لي إنَّك أُجبِرتَ على الدخول في حاشية هولاكو… فأقول لك: لكنَّ التاريخ لن يغفر لك ذلك!
لم أشهد الخواجه من قبل يقهقه بلذة واستمتاع هكذا! ليقول بأنفة واعتداد:
- التاريخ؟! أنا من الذين يصنعون التاريخ وينحتون حروفه الخالدة، أمَّا كتبةُ التاريخ فيقتاتون على فتاتي وفتات أمثالي!
يُعيد كأسه لخادمه الأخرس. يميل بوجهه نحوي، زارّاً عينيه كمن يتفحَّص مخطوطاً عتيقاً، يهزُّ رأسه بيقين:
- يكفيك هذا، هاتِ كأسك.. هاتها يا رجل.
لكنَّ الخدرَ تمكَّنَ منّ عضلات يدي، فيهوي القدح من بين أناملي. تتنبَّه حواسّي بيأس وتستعينُ بغيظها، غير أنَّها لا تستخلص من مرارة المشاعر إلَّا حلاوةَ الشكر لأستاذي الذي خلَّصني بكأسه المسموم من عذابات جلَّادي هولاكو، فاختار لي سمّاً رفيقاً لا يمزﱢق الأحشاء بمخالبه، بل يبعث في الذهن صفاءً مذهلاً! وها قلبي يهدأ في نبضاته، لكأنَّه دودةُ قزﱟ تلوذ بسُبات عزلتها بعدما أنجزت نسجَ شرنقتها الحريرية، لتنتظر مصيرها الآتي: فإمَّا انبعاثاً برفرفة جناحيها الطليقين، وإمَّا قتلاً سريعاً يقترفه الطمع بما أفرزته من خيوط الحرير!
تتمازج الصور في عينيَّ، أتشبَّثُ ببقيَّةٍ من حواسّي لأدرك أنَّ أستاذي قد نصب لي فخَّه، وأنني –ببساطة- تواطأتُ معه للوقوع في حبائله القاتلة. وبآخر رمقٍ لي أحاول سكب التمرُّد والغضب على نظراتي، وأقول بلسانٍ متثاقل:
- قتلتني يا خواجه… شكراً لك!
يرتطم رأسي بجدارٍ ما.. أشعر بكفﱟ تجسُّ منتصف صدري برفقٍ ودراية.. وقبل الغياب المُعتم يتماوجُ صوت الخواجه بارتياح:
- قُضيَ الأمر، استَرحنا وأرَحنا…
-2-
عجيب!
إنَّ في عتمتي زقزقة عصافير، وهمس نسيم، وبعوضة تقرص أنفي، وأنغام ناي تتراقص كغسيلٍ ناصعٍ على حبلٍ من ثُغاء الأغنام.
أسمع من يقول:
- أعطوه الملابس والحصان بعد أن يغتسل ويأكل، وهذه جائزة الكتمان وحُلوان النسيان.
أسمع رنين النقود..
أفتح عينيَّ. أنا مستلقٍ على فروة من صوف كبش، الحجرة طينية الجدران، والسقف فوقي قشٌّ وجذوع شجر. في الهواء رائحة دفء وعبير خبزٍ أنضجه عشقُ التنُّور. ليس معي الآن من ذكرى الحبس إلَّا أسمالي، وآثار أغلالي على معصميَّ، وأثقالُ رأسي، ومشاعري المتداخلة واستغرابها الذي لا يُوصف. وهنا أيضاً بقايا خَدَرٍ في ذراعيَّ وكتفيَّ. أمَّا خفقات قلبي، فتُرفرف كفراشة عبرت من مفترق شرنقتها بجائزة الحياة. يطلُّ من الباب وجه مألوف، تدهشني بسمته التي لم أرَها يوماً بل لم أتخيَّلها من قبل! إنَّه الخادم الأخرس عبد الحي، يدنو من فراشي ويجلس، وتحت جلبابه تتكوَّر أشياءٌ يخفيها:
- يا له من بنجٍ مُذهل، يخدﱢرُ المرء ويضعفُ دقات قلبه، فيبدو كالميت!
أصرخُ كالملذوع بالنار.. أحاول النهوض من مرقدي، فيقبض الخادم على عاتقي بحسم، وسبابته تأمرني بالصمت. يتابعُ الأخرس معجزة كلامه:
- الحمد لله، تمكَّن الخواجه من إقناع هولاكو بتأجيل إعدامك، متعللاً بسوء طالع النجوم، وبذلك البنج زيَّفنا موتك وهرَّبناك من بلطة الجلَّاد.
تتسارعُ أنفاسي، يتفصَّدُ العجز أبكمَ من نظراتي. يُخرِجُ الخادم خبيئته من غيابة جلبابه: فهنا سيفي الذي سُلب منّي عند أسري، وهنا كرَّاس دروسي، الذي تركتُه في مَراغة حين هجرتُ مرصدها ومجالس علمها.
ينهض عبد الحي، يتراجعُ خطوتين، يشير إلى السيف والكرَّاس:
- سيّدي الخواجه نصير الدين يقول لك: كلاهما يصنعان التاريخ ويصحّحان خلل الميزان. وعلى الرغم من ركام الهزيمة، فالفرصة ما زالت أمامك.. فاخترْ أنسبهما لزماننا هذا، أو لزمان قد يليه، أو ربما…
أنفضُ رأسي بيأسٍ لأتأكَّدَ من حقيقة ما أرى وأسمع، ويتابع عبد الحي كلامه:
- … أو ربما تمكنتَ من الجمعِ بينهما في هذا الزمان، أو في زمان قد يليه!
يبتسمُ الأخرس غامزاً بإحدى عينيه، باسطاً كفَّيه نحوي، كصحني ميزانٍ يستعدَّان لمفاضلةٍ أخرى بين ثقلين متقاربين، فأكاد ألمح طيفَ الخواجه يخطُّ على اللوح رموز معادلة رياضية، ويغريني بغمزة عين بأن أغرق في إغواء سحرها، وعناق عرائسها!….. ولكن، ها هو عبد الحي، يستخرج صرَّة نقود، يضعها بين السيف والكتاب، ويرجع خطوة.
وقبل أن أتغلَّب على خرسي الطارئ، يهشّم الخادمُ هلالَ شفتيه، يطيحُ بملامح الحياة من وجهه متمازج الأعراق، يستردُّ جمودَ ذاك القناع، يتراجع نحو الباب بشبه انحناءة، وطيف تحيَّة! وحين غاب، استحال حروفاً من برقٍ في سماء متَّسعة الآمال، وتجهماً لغيوم المطر حين تسوقُها وعودُ الأفق!
[1]– الخواجه نصير الدين الطوسي (1201-1274م): عالم موسوعيٌّ؛ فقيه وفيلسوف ورياضيٌّ وفلكيٌّ، شخصية جدليَّة. ضُمَّ إلى حاشية قائد المغول هولاكو قبل إسقاطه الدولة العباسيَّة بسنين، فاتَّهمه بعض المؤرخين بتحريض هولاكو على اجتياح بغداد وقتل الخليفة العباسيﱢ. عُرف عنه استقطابه مئات العلماء المسلمين وإنقاذه عشرات آلاف الكتب شراءً أو نسخاً. وأسَّس مرصداً مرموقاً في مدينة مَرَاغة، وجعله مركز بحث علميﱟ على مدى ثلاثة عقود. ترى دراسات تاريخ العلوم أنَّ مُنجز “مراغة” العلميَّ أسَّس فعليّاً لِعصر النهضة الأوروبية بعد قرنين. وبعض مؤرﱢخي العلوم يسمُّون تلك الحقبة بثورة مَرَاغة العلمية.