القصّةالمجلة

اشتياق – د. محمد إقبال حرب

اشتياق

د. محمد إقبال حرب

الفوضى البشريّةُ سيمفونيّةٌ مُعقَّدةٌ كتبها عباقرةٌ وأغبياءٌ في آن، رتَّلتها أصواتٌ

رخيمة وأخرى نشاز، بل رسم لوحتَها عباقرةُ فنﱟ أصيل من وحي نبوءات البشر. رغم ذلك نَسعَد ونفرح مُجبرين على الارتواء من دموع الحُزن والفرح. لا يهُمُّ أي الدمعتين تروي سُهوبَ الخدﱢ وهضابه أوَّلاً؛ فنحن كبشَر مُبرمجون على تقبّل صفقة الوجود كما هي. المهمُّ أن ترتوي مشاعرُنا بأمرٍ إنسانيﱟ يتآخى مع صيرورتِنا. لم يشتكِ أحدٌ جهرًا إلا القليل، ومن باح بشكواه من حلاوة دمعةٍ أو ملوحتِها، انهمرت عليه أصواتُ اللوم والعتَب لتمرُّده على قدَره وعلى نِعم الخالق الذي هو أدرى بما نحتاج!

لكن من حظّي الجميل، كما أعتقد، أنَّني ولدت في منتصف القرن الماضي إذ أنقذني الإبداعُ البشريُّ من آفاتِ الأزمنةِ الغابرة. فور وصولي إلى مُنتصف العُمر اجتاحني إعصارُ التكنولوجيا المُستقبليَّة، فغدوتُ مُخضرمًا كالناقة التي فقدت أُذنًا، فأورثتنا هذه الصفة. هزَّني الإعصارُ، قلَب حقائقَ وغيَّر أُخرى، أسقط المسافات، قلَّص الأزمنةَ، نشر المعرفةَ، خيرها وشرَّها، فاختلطت حبالُ الحقيقةِ مع الزيف. ارتفع السوقة إلى حيث لا يحلُمون فدخل وباءُ النفاقِ والفسادِ سوقَ الوجود، فأضحى الزيفُ رمزًا يُحتذى به. تسلَّلتُ إلى حيّز صغير بالكاد يروق للبشَر. به سريرٌ يتَّسع لمنامي، تُجاوره طاولةٌ تتّسع لفنجان قهوة وكتاب. أحيانًا أستخدمُها كمحطَّة لما يسدُّ جوعي، وأحيانًا أخرى كرُكنٍ متواضعٍ لحاسوبي الذي يُشاطرُني أفكاراً تنبلجُ كالكمأة عند وميض البرق. عندما يتمرَّد الحاسوبُ بطرح أفكارٍ لا تروقني أنفيها إلى غيابات الوجود بكبسة زر. أجد ذلك من حسنات إعصار التكنولوجيا؛ ففي العصر السابِق كنت أُحرج من الخبيث الذي أطرُده بأدبٍ من بابِ المنزل فيدخُل بيتي غصباً عنّي، خبيثاً، من الشبَّاك. حاولتُ إحكامَ النوافذ كي أتخلَّص من وباء مُحتَّم، لكنَّه كان يفاجئني برفقة صديق يكفل بقاءه في صراعٍ اجتماعيﱟ أسوأ من سكَرات الموت.

في عالمي الجديد، الحداثيﱢ، لا أحتاجُ إلى التواصُل مع البشر لأنَّ جنَّتي الصغيرةَ عالمٌ متكامل، بحجمِ الكون. جنَّةٌ بكلﱢ معنى الكلمة. أطلبُ المعرفةَ فأجدُها من دون منَّة، آمُر فأُجاب. كلُّ احتياجاتي المادية تصلُني تلبية لأوامري.

في عالمي الخاص ألفُ ألفُ جميلة، فيضٌ من الموبقات والجميلات اللواتي لا يخجلن من البوح بمشاعرهن، ولا أجد غضاضةً في عِشقهنَّ جميعاً. ها أنا أشكّل عالمي كما أُحبُّ من دون انتظار الآخرة لتنفيذ رغباتي وشهواتي.

آه من هذا الجمال وتلك اللذّة، تلك التي تكاد تكون كاملةً لولا بعض الثغرات التي  أعمل على تصحيحِها.

أشتاق للشمس والمطر، للبحر والطير وريح البشر، لزهرة تبشُّ لي، وقط يموء حولي، إلى ذاك الشيخ التائه وتلك المتسوﱢلة المُنافقة. كم أشتاق لصوت طفلٍ يخترقُ صخَب المدينة وهو يسابق كلباً بين حواريها.

أشتاق ملامسةَ بشرةٍ إنسانيَّةٍ لأتأكد من أهليَّة مشاعري. أشتاق الاستماع إلى نبض قلبٍ ما لأروي وحدتي التي لم تسمع نبضَ قلبٍ منذ تكوُّري في حيّزي الصَّغير من هذا الكوكب.

كم أشتاق العودة إلى بشريتي، إلى إنسانيتي قبل أن أصبحَ آلةً يبرمجُها جهازُ ضبطٍ ناءٍ في مكتبٍ فاره لمخلوقٍ لا ترويه دمعةُ فرحٍ أو حُزنٍ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى