![](https://www.lebanesewriters.org.lb/wp-content/uploads/2025/01/Cover-780x470.jpg)
موسِم الزّيتون
د. هدى عيد
حبيبتي ” نجمَة”،
تلقيتُ رسالتك الّتي اتَّهمتِني فيها بالتَّساهل، والخفَّة، وبانعدام الصّدق في العهود. شعرت وأنا أقرأها بألم حادﱟ، وبقهر حزَّني كسكّين. كيف عنَّ على بالك أن ترميني بهذه الصّفات؟ ومتى عاينتِ أيًّا منها في تعاملي معك خلال سنوات دراستنا التي تجاوزت الخمس بدءًا من المرحلة الثّانوية وانتهاءً بعامنا الجامعيﱢ الثاني؟ بل لمَ لم يخطرْ في بالك أن تسأليني عن أحوالنا قبل أن تباشري بإطلاق هذه الاتّهامات؟
سامحك الله يا نجمةَ عمري، لأنَّك تسبحين في عوالمَ أخرى في ما يبدو لي، غير تلك التي أقيم فيها أنا وأهلي. وربَّما لذلك خطرَ في بالك ما خطَّته يدك من كلمات. إذاً حان وقت قول الحقيقة. أنت تسمعين منّي الآن صوتها، فأصغي.
ثمَّة أمور لم أخبرك عنها سابقاً يا نجمتي لأنَّ الفرصة لم تسنح لنا للحديث عنها؛ فنحن كنّا منشغلتَين دائماً بحلﱢ مسائل الرياضيات، وبمعالجة أخبار العلوم والتكنولوجيا الحديثة، وبمتابعة القضايا اللغويّة الّتي كانت تبدو لنا صعبة في تلك الأثناء… وما إلى ذلك من تفاصيل أنت أدرى بها منّي. لقد كانت تلك المسائل هي شغلنا اليوميَّ الشاغل حتى أنجزنا سنواتنا الدراسية بتفوُّق حسدَنا الآخرون عليه.
قرَّرنا بعد ذلك أنا وأنت أن نلتحق بالجامعة الوطنية في العاصمة، لنحقّق ذاتينا في اختصاصَي الطبﱢ لي، والصيدلة لك؛
كي يتكامل عملانا في مستقبلنا القادم، كما تكاملنا في الأفكار والمشاعر في سنوات دراستنا المنصرمة.
أنا لم أخبرك سابقاً، يا نجمتي، بأنَّنا فقراء. والفقر ليس عيباً، يا نجمة. الكسلُ وحده هو ما يعيب الرﱢجال. وأبي ليس إنساناً كسولاً، بل هو رجل مثابرٌ واثقٌ عنيد، له إرادة صخر لا يلين. يعمل أبي طوال النَّهار في أملاك الآخرين؛ يفلح لهم الأراضي، يغرس الشتلات والبذور، يسقي الزُّروع، يقطف المواسم، ويتقاضى أجره دائماً مرفوع الرأس، ثابت النظرات.
أحبَّ أبي أمّي كما أحببتكِ. عشقَ عينيها الزيتونيَّتَي اللون المشابهتين للون أوراق شجرة الزيتون؛ مؤكَّد أنَّك تعرفين تلك الشجرة المباركة المحبَّبة إلى قلوب كلﱢ الفلاحين. هل تعرفين؟! كذلك أحبَّ أبي ضحكتها الصافية المنسابة التي كانت تنسيه شقاء النهار، فتزوَّجها، وبنى لها بيتاً من حجر اقتطعه من الأرض، وسوَّاه بساعدَيه.
عاونه على ذلك والدُه، جدﱢي الّذي أورثه تلك الأرض الصغيرة القائمة على أطراف تلة من تلال بلدتنا الواقعة على حدود البلاد. جدﱢي هو الآخر كان فقيراً، امتلك في حياته عدداً من رؤوس الماعز والأغنام، شكَّلت كلَّ رأس ماله في الحياة. لم ينجب جدﱢي من الأبناء سوى أبي، وأبي أنجب أختى ملَكَة التي تكبرني بثلاثة أعوام. وقد تزوَّجت منذ سنتين، وهي الآن تنتظر مولودها. وتدركين طبعاً أنَّه أنجبني.
عاش أبي حياة مكتفية سعيدة، أحبَّ فيها أمّي، وأحسن تربية أختي، وافتخر طوال الوقت بي وباستقامتي. وقد حاول أن يجتذبني إلى عالم الزراعة في بعض الأحيان، لكنَّ عقلي كان يهرب إلى عوالم أخرى. هو من علَّمني أن أكون رجلاً شجاعاً وصريحاً منذ صغري، لذلك قلت له:
– أريد أن أكمل تعليمي يا أبي، على أن أواظب بعد عودتي من المدرسة على العناية معك بالأرض.
هزَّ رأسه.. من ثمَّ قال، وعيناه تنظران إلى البعيد:
– لك أن تختار ما تريد، أنت شابٌّ حرٌّ وذكيٌّ، وأنا أحترم قرارك.
بعد انقضاء يومين، سمعته في الليل يقول لأمّي، بصوت خفيض:
– صالح يريد أن يكمل تعليمه يا هلا، وأستاذ المدرسة قال لي إبنك ذكي يا أحمد، أتركه يتعلَّم كما يحلو له. وقد استشرتُ الشّيخ فقال لي: “الله سبحانه وتعالى، ونبيُّنا محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم، يُحبَّان العلم والمتعلّمين، فاتركه يتعلَّم على بركة الله يا أحمد”. لذلك قرّرتُ أن أزرع بستان زيتون يدرُّ علينا بعض الأموال، عساها تعيننا على تكاليف العلم.
– من أين لك الأرض يا أبا صالح؟
– سأستصلح الأرض البور التي بِجوار البيت.. وقد استأذنتُ رئيس البلدية، فقال هي لك إذا وجدتَ فيها تراباً.
– كلُّها صخر يا أحمد، كلامك غير معقول!
– سأحوﱢل الصخر إلى بستان زيتون، يا هلا.. أتركي المسألة لي.
حوَّل أبي الصخرَ إلى بستان في سبيل تعليمي، يا نجمة.. فتَّتَ الصخور، وأزاح بعضها من مواضعها، فرحُبَت بينها المسافات، وانبثق من خلالها ترابٌ أحمر نقيٌّ، أشبه بالسّحر في خصوبته وفي نداوته. صار لنا بستان زيتون ينتج الزَّيت الذي نبيعه، وامتلكنا حبَّات الزيتون المرصوص تجعلها أمي في جِرار، تقصدها لشرائها بعضُ نساء القرية الموسرات. هكذا سدَّد أبي تكاليف تعليمي، وكفاني وأختي شرَّ سؤال الناس.
منذ شهور، تتعرَّض حدودنا للقصف من قبل العدوﱢ الذي يقيم قبالتنا. هو عدوٌّ يطمع طوال الوقت بخيرات أرضنا، وبأرض جيراننا المستضعفين. لا بدَّ أنَّك تسمعين بالأمر وتشاهدينَ الأخبار التي تضجُّ بها شاشاتُ تلفزة العالم، ووسائل تواصلِه، أم أنَّك شأنَ كثيرين لا تسمعين؟ صرنا نصغي إلى دويﱢ سقوط القذائف، وإلى صفير الصَّواريخ وهي تبقر بطون أراضينا الطَّيّبة، لكنَّنا بقينا نتابعُ حياتنا بإصرارٍ وتصميم. لم نشكُ، ولم أحدﱢثك يوماً عن مخاوفنا، وعن هواجسنا. لقد تعلَّمنا أن نهزمَ الخوف في دواخلنا، حتى الخوف يا نجمة، يمكنُ للإنسان أن يهزمه ويخفيه.
حدث منذ أسبوع أن اشتدَّ قصف الطيران والمدفعية كثيراً. بات قريبا من بيوت قريتنا. وعدوُّنا غادرٌ لا أمانَ له. قال لي أبي: سنذهب للإقامة عند أختك في البلدة المجاورة أسبوعاً فقط. البلدة قريبة، وأستطيع أنا أن أتفقَّد البيت والبستان في حالات هدوء القصف. إذهب واطلب من “ليشا” أن يأتي ليقلَّنا بسيَّارته. ليشا هو سائق تاكسي القرية، يا نجمة. ونحن نناديه بلقبه هذا منذ صغرنا، حتى نسينا أن نسأل أهلنا عن اسمه الحقيقيﱢ. عدتُ مع ليشا إلى البيت، فوجدت أمي تبكي بكاءً مُرّاً، وتقول لأبي:
– في هذه السنة سيكون لنا قنطارُ زيت. أنا أنتظر مثل هذا الموسم يخزي العين، منذ عشر سنوات.. فكيف تريد منَّا أن نتركه نهباً لأعدائنا؟! يا أبا صالح..
كان أبي يحاول تهدئتها بصرامة، مجيباً إيَّاها بأنَّ عليها أن توكلَ أمرها إلى الله سبحانه، فوحدَه الحامي لنا وللأرزاق. غادرنا المنزل، وأمّي مستمرة في بكائها وحسرتها. لم تفلح فرحتها بابنتها وبحفيدها في أن تنسيها قلقها على موسم الزيتون. صارت تتسقَّط أخبار القصف، وتستفسر عن مواقع سقوط القذائف، وأماكن الأضرار، طوال الوقت.
عدنا بعد أسبوع، بعد أن وصلت إلينا أنباء القصف المتوحّش الذي طال قريتنا، وربَّما طاول منزلنا، هكذا أخبرنا ليشا. حين ترجَّلنا من السيَّارة صعَقَنا مشهدُ السَّواد الذي غطَّى كلَّ مساحة البيت واقتات من خضرة كلﱢ شجرات الزيتون الجميلات. بكت أمّي بحرقة ما بعدها حرقة. أوجع بكاؤها قلبي، يا نجمة، وكسرَه جلوسُ أبي ساهماً على صخرة غطَّاها رمادٌ أغبر اللون غريب الملمس. لم يقل شيئاً، ولم يجب أمّي التي راحت تردﱢد:
– أنا لم أشأ أن أترك البيت. أنتم قرَّرتم عنّي. لم تتركوني أقطف موسم الزيتون، لماذا؟ يا أبا صالح، لماذا؟ لقد راح كلُّ شيء.
لقد عدنا فقراءَ من جديد، يا نجمة؛ فالأرض هي رأسُ مالنا الوحيد نحن أبناء هذه البِقاع. صار أبي فجأة كهلاً، وكثُر في يومين البياضُ على شعر رأسه. أنا لا أستطيع أن أتركه يبني البيت وحيداً بمفرده، يا نجمة. تلك قسوة بالغة وجحود. سألتُه على استحياء:
– ما رأيك أن ننتقل إلى مكان جديد، يا أبي، عسى أن تتغيَّر الأحوال؟
نظر إليَّ طويلاً نظرةً عميقة اخترقتني، وأجابني بصلابةٍ عُرفت عنه:
– عدْ أنت وأمُّك للإقامة عند أختك، وأنا سأعمّر البيت من جديد.
لقد آلمني كثيراً، يا نجمة، أن تصفيني بقلة الصّدق، وبانعدام المسؤولية.
أنا أمضي أيَّامي هذه، التي غبتُ فيها عن عينيك الجميلتين، في معاونة أبي على تفتيت صخور جديدة، نبني من حجارتها بيتاً أفضل من البيت الذي كان. ستعود أمّي من منزل أختي لِتستقرَّ فيه، وسنزرع لها بستان زيتون نغرسُ شجراتِه في التُّراب المحروق الخصب النديﱢ. وقد أتقدَّم في العام القادم إلى إدارة جامعتنا بِطلب استرحامٍ يخوﱢلني متابعة دراستي الجامعيَّة من جديد. لذلك، لا معنى للانتظار العبثيﱢ، يا نجمة. إنسيني يا حبيبةً كنتِها في يومٍ من الأيَّام، وكوني نفسَك بعيداً منّي. بل تحرَّري من العهد الذي التزمنا به يوماً بأن نكون السَّكنَ لروحينا، والمرايا لبعضنا بعضاً، ودمتِ دائماً بخير.